Close ad
9-2-2021 | 12:01
الأهرام اليومي نقلاً عن

الخوف ليس ظاهرة جديدة ولا صفة ذميمة، إنما هو إحساس بالخشية من أمر ما، ولذلك فالخوف صفة معتادة لدى البشر بدأت من الخوف إزاء غضب الطبيعة وظواهرها الاستثنائية من زلازل وبراكين وفيضانات وسيول وصولًا إلى خوف الإنسان من أخيه الإنسان وجبروته غير المتوقع أو المتوقع على السواء، فلم يظلم الإنسان فى حياته مثلما ظلمه أخوه منذ أسطورة (قابيل وهابيل)، ولقد ساوى القرآن الكريم بين الجوع والخوف وهى مساواة بليغة وعميقة ورائعة، إذ يقول الحق تبارك وتعالى (.. الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) والمساواة بين الجوع والخوف هى فلسفة بلاغية ينفرد بها الذكر الحكيم، وأظن أن الخوف ظاهرة غير استثنائية لأنها تشمل البشر جميعًا بدرجات متفاوتة فمنهم من يظهره ومنهم من يقدر على إخفائه، ولقد لاحظت ذلك الأمر بين ركاب الطائرات فالكل لديه هاجس ولو قليلا ولكن هناك من يبدو عليه أحيانًا القلق وهناك من يخفى ذلك القلق بحيث لا يشعر بما فى داخله أحد كما أن القدرة على الإخفاء تتفاوت من شخص إلى آخر وما بين الرجل والمرأة ولكنها فى النهاية ميزة يتمتع بها البعض ولا يتصف بها البعض الآخر، والخوف ظاهرة عاقلة قابلة للتحليل النفسى والعلاج العصبي، فالطفل لا يخاف النار ويمد يديه نحوها بلا وعى حتى إذا لسعته تولدت لديه الخبرة الأولى وترسبت فى أعماقه مخاوف الحرق، ولذلك فإننا نعتز بتعبير خاص رددته كتابات الأولين، وأعنى به تعبير (شجاعة الجاهل) حتى أن الأدب الشعبى المصرى المعاصر يروى قصة خروج الخديو عباس حلمى الثانى فى نزهة بالصحراء ومعه عدد قليل من مرافقيه حتى وصلوا إلى خيمة أحد العربان على أطراف الصحراء ونزل أحد المرافقين عن حصانه، وقال لشيخ الخيمة: هذا أفندينا عباس حلمي، فرد الاعرابى كيف حالك يا عباس؟ وماذا تفعل هنا؟ ذلك أنه كان يجهل صورته، فالرجل بعيد عن الصحف ولم يكن التليفزيون قد بدأ وبالتالى فإن ما فعله ذلك الأعرابى فى التجاوز فى أثناء الحديث مع خديو مصر كان سببه ما نسميه (شجاعة الجاهل) ويومها قال عباس حلمى لهذا السبب لا نجند الأعراب فى الجيش المصرى حتى الآن! وهذه الرواية على طرافتها تمثل نموذجًا للجرأة التى تصيب من لا يعرف والشجاعة التى يتحلى بها من لا يدرك الحقيقة، فالخوف والقلق صفتان تتزايد حدتهما مع الوقت، بل إن ظاهرة الخوف من المرض قد صنعت فى الأدب الفرنسى شخصية المريض بالوهم الذى يتوهم دائمًا أن لديه كل مرض يسمع عنه أو يعتريه الخوف من وصوله إليه، ونحن نؤكد هنا أن الخوف ظاهرة طبيعية، يجب عدم النظر إليها من منظور ضيق بل يجب اعتبارها جزءًا لا يتجزأ من التركيبة البشرية لأنها صفة من صفات المخلوق الذى يخشى المرض ويخاف الموت ويتحسب من المجهول فى كل وقت، ولنا هنا عدة وقفات تتمثل فيما يلي:

أولا: إن المبالغة فى الخوف جنوح مرضى يحتاج إلى علاج كالخوف من الأماكن المرتفعة أو من ركوب بعض وسائل المواصلات كما نلاحظ أن بعض هذه المخاوف تخضع للعلاج النفسي، فأنا شخصيًا أخشى الأماكن المزدحمة بشدة لذلك لا أدخل فى تجمعات بشرية مهما تكن المناسبة لأننى أشعر باختناق حقيقى كذلك فإن توقف المصعد نتيجة عطل فنى قد سبب لى عقدة نفسية تجعلنى حتى الآن أخشى المصاعد ولا استخدمها إلا فى وجود عامل المصعد.

ثانيًا: إن ظاهرة الخوف من وباء الكورونا الذى اجتاح الجنس البشرى فى الآونة الاخيرة هى ظاهرة متوقعة، وقد كان من نتائجها أن المخاوف من الوباء لا تقل فى معاناتها عن الوباء ذاته بل إن تردد الملايين فى تعاطى التطعيم الطبى المضاد لذلك الداء إنما يعكس هو الآخر جزءًا من محنة الخوف منه كذلك فإن انتشار الشائعات حول الوباء وتضارب الأقوال فى أسبابه وملابساته واحتمالاته القادمة كل هذه الأمور جسدت المخاوف وأشعرت الجميع بأن الموقف صعب وأن ما هو قادم قد يكون أصعب.

ثالثًا: إن الخوف درجات يختلف ظهورها من شخص إلى آخر والذين شهدوا لحظات إعدام صدام حسين على شاشات التليفزيون يدركون كم كان الرجل قويًا إلى حد التبلد لا مباليًا بشكل غير معهود، فقد واجه حبل المشنقة بجسارة وهدوء بعد أن قتل الآلاف خلال حياته المثيرة، لذلك فإن التفاوت الإنسانى فى درجات الإحساس بالخطر هو أمر مؤكد يختلف من شخص إلى آخر بل من قومية إلى أخرى، فنحن نعلم عن بعض القبائل البدائية أن لديها تصرفات نادرة تؤكد قوة التحمل والتعايش مع المناخ القاسى والظروف الصعبة والتحديات المحيطة.

خلاصة القول إن الإنسان الذى لم يعش الدهر كله ولم يعش فى كل مكان يبدو أمامه المجهول واسعًا وفسيحًا لذلك فإنه يتعامل معه بكثير من الخوف الدفين والقلق الغامض خصوصًا أنه كلما اتسعت مساحة المعلوم تزايدت أيضًا مساحة المجهول وليس العكس كما يتصور البعض من النظرة الأولى ويبقى هناك جانب مظلم فى كل مناحى الحياة مهما يسطع الضوء أو تتلألأ المصابيح، فالمجهول يخيف البشر ويحرمهم من التجبر المطلق، فالإنسان محدود الزمان والمكان، وقد قال فيه القرآن الكريم «..إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا».

كلمات البحث
الأكثر قراءة