كانت تظاهرات شباب مصر من العمال والطلبة تملأ الميادين في سنوات ما قبل حرب أكتوبر 1973، وكانت كل شعاراتهم المدوية تطالب بتحرير الأرض، وبقبول تطوعهم على الجبهة كمقاتلين.
كان هناك اتفاق عام على الأولوية الأولى، ولم يحتج المتظاهرون ضد أوضاع كثيرة كانت تضغط بدرجات أقل، لا كلام عن الديمقراطية، ولا سوء أحوال المعيشة واختفاء السلع الأساسية..إلخ.
أضِف إلى كل هذا صمودهم أمام حرب العدو النفسية الشرسة التي كانت على أشدها، تطعن في كفاءة جيش مصر، وتشكك في امتلاكه التسليح المتطور، وتتحدث عن تدهور الاقتصاد المصري واستحالة تحمله لأي حرب جديدة، كما كانت، في نفس الوقت، تشيع الرعب من جيش إسرائيل الرهيب الذي لا يُقهَر، ومن خط بارليف الذي لا يمكن عبوره إلا بقنابل نووية..إلخ.
وستبقى الأسئلة العويصة للباحثين والمؤرخين عن المصادر الغريبة العجيبة التي كانت الجماهير المصرية تستمد منها اليقين في أن النصر ممكن وقريب، مع الثقة في أن لها دورًا فاعلًا في تحقيق النصر.
كما يظل السؤال الكبير عن كيف تمكن الجيش المصري العظيم من أن يتصدى لمؤامرات العدو الساعية لتحطيم إرادته، وكذلك في عدم الانزلاق تحت ضغط الداخل في حرب متهورة غير محسوبة، وكيف تمكن الجيش من الدأب في أشقى التدريبات على أعقد الخطط، مع الإخفاء والتمويه على العدو، إلى حد أن ينخدع مصريون كثيرون بأنه ليس هناك استعداد للحرب.
كان الأمل الكبير بعد نصر أكتوبر، خاصة بعد معاهدات إنهاء الحرب، أن تدخل مصر في البناء لتعويض ما فات، ولكنها غاصت عبر عقود من حكم مبارك في دوّامات مُستنزِفة، ساد فيها الفساد والتخبط والعشوائيات وإهمال التنمية والتعليم والصحة، مع التهاون مع الفتن الطائفية، واستفحال الشعوذة باسم الدين، وأطماع توريث الحكم، بالتآمر مع الفاسدين والتيارات الدينية، فلما نجح الشعب في خلع مبارك، أتي الإخوان بما هو أسوأ، فأطاح بهم الشعب، مرة أخرى بمساندة الجيش، فتوافرت لأول مرة فرصة للبناء الحقيقي، الذي جاءت خطواته الأولى مبشرة بالجدية وبإمكانية تحقيق آمال بناء الدولة المأمولة.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام