جاء انسحاب واشنطن من منظمة اليونسكو ليكون واحدا من بين سلسلة انسحابات قامت بها الولايات المتحدة منذ أن تولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سُدة الحكم في البيت الأبيض، حتى بات "سفر الخروج" من الاتفاقات والهيئات الدولية الذي تعكف الإدارة الأمريكية على كتابته حاليًا مثارًا لقلق العديد من الدول، بما فيها تلك البلدان التي تُصنف باعتبارها حليفة لواشنطن.
موضوعات مقترحة
رافقت حملة ترامب الانتخابية قبل وصوله للمكتب البيضاوي بالبيت الأبيض العديد من الشعارات والوعود التي تهدف لضرورة انسحاب واشنطن من العديد من الاتفاقات مثل "اتفاقية باريس للمناخ – اتفاق إيران النووي ـ تسوية الملف الكوبي ـ اتفاقيات التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ وأمريكا الشمالية"، وما هي إلا تسعة أشهر أمضاها الرئيس الأمريكي حتى برهن أن المداد التي كُتبت بها تلك الاتفاقيات كان أثمن من توقيعها، فمضى في إستراتيجيته الخاصة بالانسحاب من بعضها، وتقويض البعض الآخر.
ومع كل مرة تنسحب فيها إدارة ترامب عن اتفاق دولي أو منظمة أممية حتى تحضر معها الأسباب التي تعلى من المصالح السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة دون النظر إلى مصالح الشركاء، الذين أبدى بعضهم امتعاضه، فراح يتهم واشنطن بالتضحية بالعلاقات الإستراتيجية محذرين من مستقبل وخيم يدفع واشنطن للعزلة، فيما صمت البعض الآخر على مضض.
وبوصفه مليارديرا يجيد "فن الصفقات" كما هو عنوان كتابه، فقد نظر ترامب إلى الاقتصاد أولا، واستغرقه عالم المال والأعمال، لذا فلم يمض يومه الثالث بعد التنصيب حتى وفى بتعهد قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية بالانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، التي وقعها سلفه باراك أوباما عام 2015 مع 12 دولة من بينها اليابان وماليزيا واستراليا ونيوزيلندا وكندا والمكسيك، والتي تشمل 40 % من الاقتصاد العالمي، عبر خفض الرسوم الجمركية، والحفاظ على المناخ .
لقد علق ترامب وهو يوقع قرار الانسحاب من الاتفاقية "إن ما فعلناه الآن هو شئ عظيم للعامل الأمريكي ، و الإفلات من كارثة اقتصادية محتملة لبلادنا تضر بالصناعة الأمريكية"، كما تعهد بإلغاء "كامل" للوائح والضرائب المفروضة على الشركات التي تحافظ على توفير فرص عمل في الولايات المتحدة، وحذر بأنه سيفرض "ضريبة حدود باهظة" على الشركات التي ستنقل نشاطها الصناعي خارج الولايات المتحدة.
تكرر ذات الموقف مع كوريا الجنوبية أهم الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة، حيث هدد ترامب بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة مع سول رغم العلاقات المتميزة بين البلدين ، وأكد الرئيس الأمريكي أن الاتفاقية تُفيد كوريا الجنوبية أكثر من واشنطن، ورغم تأكيد سول أن الاتفاقية متساوية الفائدة بين البلدين ، إلا أن تلويح ترامب بالانسحاب دفع سول لإعادة التفاوض من جديد.
ما وقع مع اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادئ" بات مصيرًا مقلقًا لكندا والمكسيك جيران الولايات المتحدة من الشمال والجنوب، واللذين وقعا معها من قبل (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا") عام 1994، ولا يزال ترامب يهدد بالانسحاب من الاتفاقية التجارية "الأسوأ" التي أبرمتها واشنطن بحسب وصفه، رافعا شعار "أمريكا أولا"، حيث اعتبرها عائقا في وجه حصول الأمريكيين على الوظائف في قطاع "صناعة السيارات" ، ولطالما حظيت المكسيك بالقسط الأوفر خمن غضب ترامب، الذي هدد ببناء جدار عازل على طول الحدود مع المكسيك، التي اتهمها خلال حملته الانتخابية بتهريب البشر والمخدرات، ولاستفادة من المقدرات الأمريكية .
الارتقاء بالاقتصاد الأمريكي الذي يرى فيه ترامب ضرورة لضمان عالم "أحادى القطب" للحيلولة دون صعود الصين،التي استهدفها في حملاته الانتخابية، خاصة مع إطلاق مبادرتها الاقتصادية "طريق الحرير"، ولهذا حسم أمره واتخذ قراراه بالانسحاب من "اتفاقية باريس للمناخ" التي توافقت عليها جميع بلدان العالم عام 2015، والتي تُلزم 187 دولة بالإبقاء على درجات الحرارة العالمية المتزايدة عند مستوى أقل بكثير من درجتين مئويتين .
لقد وجد ترامب في هذه الاتفاقية إجحافًا لاقتصاد بلاده، حيث أكد إن الاتفاقية ستكلف بلاده خسارة 6.5 ملايين وظيفة ،وخسارة نحو 3 تريليونات دولار من إجمالي الناتج المحلي ، وطالب بصفقة "عادلة" للولايات المتحدة على غرار ما عوملت به الاقتصاديات المنافسة من أمثال الصين والهند، ورغم الكوارث البيئية والمادية الفادحة التي تعرضت لها الولايات المتحدة جراء إعصار "هارفى" الذي ضرب ولاية تكساس مخلفا خسائر مادية بنحو 190 مليار دولار، وإعصار "إيرما" الذي ضرب ميامى وفلوريدا وجزر سانت مارتن وسان بارتيملى بالمحيط ، وأتى على 95% من جزر الكاريبي، إلا أن إدارة ترامب لا تعبأ بتلك الإنذارات العنيفة التي تصدرها "التغيرات المناخية"، فراحت تروج لضرورة إنعاش "صناعة المناجم الأمريكية" ولاسيما مناجم الفحم، والتراجع عن خطة "الطاقة النظيفة"، وتغيير قوانين البيئة التي أصدرها الرئيس السابق باراك أوباما .
ومثلما يريد ترامب الإجهاز على إرث أوباما الاقتصادي فإن نسف الإرث السياسي أولى بالتنفيذ، لاسيما الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس السابق مع إيران والتقارب الدبلوماسي مع كوبا ، وقد نالت تلك الدولتين قسطا وافرا من انتقاد وغضب ترامب إبان حملته الانتخابية مهددا بنسفهما ليكونا والعدم سواء.
فبعد أقل من شهر على انسحابه من "اتفاق باريس للمناخ" وقع ترامب على إلغاء الاتفاق الذي توصلت إليه إدارة أوباما مع كوبا، وتحدث عن "سياسة جديدة" في التعامل مع هافانا، تستهدف صفقة أفضل مع الشعب الكوبي دون النظر إلى نظام "راؤول كاسترو"، مؤكدا أن العقوبات لن تُرفع عن النظام الكوبي، وستستهدف قطاع السياحة والتحكم في تدفق الأموال إلى هافانا، ما لم يتم إطلاق سراح كل السجناء السياسيين وإتاحة حرية للأحزاب السياسية تمهيدا لانتخابات حرة تجرى تحت إشراف دولي.
جاء أمس الخميس انسحاب واشنطن من عضوية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" ممهورا بتوقيع ترامب في خضم الانتخابات المشتعلة داخل أروقة المنظمة الدولية، ولأن إدارة ترامب تجيد ربط السياسة بالمال ، فقد أفصحت أن انسحابها جاء بسبب ديون المساهمات المالية، وإصلاح النظام المالي للمنطقة، والأهم من ذلك كله "رفضا للتحيز ضد إسرائيل" التي اعتبرتها "اليونسكو" في يونيو الماضي سلطة احتلال تمارس أنشطة استيطانية قمعية على مدينة القدس، انسحاب تهلل له وجه تل أبيب المشوه ببثور الاحتلال، فأعلنت انسحابها تأييدا للموقف الأمريكي، وسط حالة من الخوف والترقب فيما إذا كانت تل أبيب ستسعى بقوة في مخطط "التهويد" وهى تغلق آذانها لدعاة التراث والحضارة، أو ربما تمهيدا لسيناريو آخر انتظرته إسرائيل من واشنطن طويلا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس للتأكيد على "يهودية المدينة المقدسة" عند أصحاب الديانات السماوية.
انسحاب اليونسكو لن يكون شيئًا إن صحت الأنباء المتواترة عن اعتزام ترامب نسف الاتفاق النووي الإيراني الجمعة، في مؤتمره الصحفي بالبيت الأبيض، إذا ما أعلن انسحاب أمريكي أحادى الجانب وإعادة فرض العقوبات على طهران، وقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق خلال عهد سلفه باراك أوباما في يوليو 2015 بين إيران وقوى دولية بعد ما يقرب من 20 شهراً من المفاوضات،وبموجب الخطة اتفقت إيران والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا والصين وروسيا وفرنسا المعروفة باسم (مجموعة 5 + 1) والاتحاد الأوروبي على رفع العقوبات الدولية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني مقابل تفكيك طهران لبرنامجها النووي.
وقد دخل الاتفاق حيز التنفيذ في يناير 2016 تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأدى ذلك إلى رفع العقوبات المفروضة على إيران والمتعلقة بتطوير الطاقة النووية السلمية، بما في ذلك العقوبات المتعلقة بالمعاملات المالية والتجارة والطاقة ، وتم الإفراج عن عشرات المليارات من الدولارات من أصول إيران المالية المجمّدة.
لقد أبى ترامب في خضم التراشق مع كوريا الشمالية التي أعلنت الشهر الماضي عن امتلاك القنبلة الهيدروجينية وتطوير صواريخها الباليستية النووية بما يجعلها قادرة على ضرب سواحل الولايات المتحدة وكذا حلفاءها في المحيط الهادي، إلا أن يفتح جبهة نووية أخرى مع إيران حين وصف الاتفاق النووي الإيراني بأنه الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، وأن طهران عليها أن تنتظر سكون ما قبل العاصفة.
وفي هذا السياق تناقلت وسائل الإعلام الإيرانية قول وزير الخارجية محمد جواد ظريف أن ردّ إيران سيكون قويا على أي إجراء أمريكي ضد الاتفاق النووي دون تحديد ما هي أشكال الرد المحتملة.