منذ 47 عامًا خضنا أهم وأفضل الحروب من أجل استرداد أرضنا وكرامتنا، بعد مرورنا بنكسة 1967، وكانت المسافة بين حرب 73 ونكسة 67 (ست سنوات)، أعدت القيادة المصرية الجيش وأعادت بناءه وتسليحه، وكان التدريب شاقًا من أجل استرداد الكرامة، وكان هناك تخطيط جيد محكم، لعبور أصعب مانع مائي شاركت فيه أيدي وخبرات أجنبية من أجل حماية المستعمر، ولكن كان هناك عاملان استظل بهما جنود مصر خلف قيادتها الحكيمة، (آنذاك)، (الإيمان بالله والأمل في النصر)، وعلت راية (حب الوطن والدفاع عنه) فرض عين في الإسلام وواجب على كل مسلم.
بالإضافة إلى التدريب والتخطيط الجيد على مدار الـ(6) سنوات، فعبر الجنود وهم صائمون برغم أنه أُذن لهم بالإفطار، وعلت كلمة (الله أكبر) فوق لهب نيران المانع المائي، وعنصر المفاجأة والضربة الجوية الأولى أذهلت الجميع، وخرج العدو مذعورًا يستغيث من (وحوش مصر) الذين جاؤوهم من كل حدب وصوب ليستردوا أرضهم وحقهم وكرامتهم.
وبمناسبة الذكرى الـ47 لحرب أكتوبر 1973 حاورت (بوابة الأهرام) الدكتور بكر ذكي عوض، عميد كلية أصول الدين السابق، بجامعة القاهرة، وأستاذ مقارنة الأديان.. وإلى نص الحوار:
حب الوطن أمر فطري
ماذا تعني منزلة الأوطان في الإسلام؟ وكيف يمكن الدفاع عنها؟
منزلة الأوطان في الإسلام وواجب الدفاع عنها، من أهم ما يجب أن نعرفه جميعًا، فكلمة وطن بمعنى أقام، وكل كائن حي يفتقر إلى مكان يقيم فيه، ويرتبط به، بعد فترة من الزمن، يستوي في هذا الإنسان والحيوان، والطير، والحشرات، وقد فطرت هذه الكائنات على حب موطنها، والدفاع عنه حال الاعتداء عليه، نرى ذلك بمملكة النحل، وفي أعشاش الطير، وفي جحور الحيوانات، وفي أوكار الثعالب والذئاب...الخ.
والإنسان أولى بهذا من هذه الكائنات، وقد صرح القرآن الكريم، بالربط القوي بين الإنسان وبين الأرض التي يقيم فيها، وفي هذا جاءت آيات القرآن الكريم تؤكد الربط القوي بين الوطن والإنسان، وقد رأينا المشركين يهددون الأنبياء والمرسلين بالطرد كنوع من العقوبة، وقال تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)، ورأينا فرعون والسحرة يحذران المصريين من اتباع موسى وهارون، لأن اتباعهما سيترتب عليه الإخراج من الأرض، مما يجلب المشقة والإهانة، قال تعالى بشأن السحرة، فيما نطقوا به بحق موسى وأخيه (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما)، كما أن الإسلام قد جعل الإخراج من الوطن (عقوبة تأديبية)، للزاني غير المحصن وللبغاة الساعين في الأرض فسادًا، (أو ينفوا من الأرض).
الإقامة في الوطن
هل هناك نصوص تدل على أن الإقامة في الوطن تكريم والخروج منه عقوبة تأديبية؟
دلت النصوص على أن الإقامة في الوطن عز وكرامة وقيمة، وقدر، وورد أن الإخراج منه ذل وإهانة ومهانة، فالآيات كثيرة: منها: قال تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)، وأيضا: ((قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما)) فأصبح الدفاع عن الوطن من فروض العين، على كل مقيم فيه، لأن بسقوطه وإهداره، يعد إهدارًا للكرامة والمنزلة، بل والآدمية، وحين يسقط الوطن، تسقط العزة، والأنفة والمنعة، ويكون الصغار والهوان، وقد ابتلينا بهذا في نكسة 5 يونيو 1967، ولكن شاءت إرادة الله أن يسقط جزء من الوطن دون أن تسقط الإرادة، وأن نفقد السلاح دون أن نفقد العزيمة، وأن ينصرف كثيرون عنا فكان لجوؤنا إلى الله، وقد استنصرنا إخواننا العرب والمسلمين، فنصرونا، فكان الإعداد والاستعداد لأداء فرض العين، وهو قهر وكسر وطرد وإذلال المعتدي الغاصب، صدقت النية من ناحية مع الله، وكان الإعداد الجيد من ناحية ثانية، وقوة الإيمان من ناحية ثالثة، فحررت الأرض المغتصبة في غمضة عين وانتباهتها، بما لا يخطر على بال أحد في الشرق أو الغرب، أن ذلك سيحدث، وبخاصة أن الهزيمة كانت كبرى في 1967، وأن الفترة الزمنية للإعداد والاستعداد كانت قصيرة، وأن بعض الدول قد منعتنا السلاح، وأن إسرائيل قد جابت الشرق والغرب تدعو حلفاءها إلى عدم مد مصر والعرب بالسلاح، حرصًا على سلامتهم، فضلا عن الموانع الطبيعية، (قناة السويس)، والموانع الصناعية (خط بارليف)، فضلا عن الظهير الصحراوي في سيناء، مما أصاب البعض باليأس حينها، ولكنه الجندي المصري، خير أجناد الأرض والقيادة المصرية، التي تتسم بالحنكة، والقدرة على المراوغة، والتفوق السياسي، والمداهنة، (الدهاء السياسي)، مما مكن الجيش المصري من تحقيق أكبر نصر في أقل وقت في التاريخ المعاصر، وصارت حرب أكتوبر درسًا يدرس في كل الكليات العسكرية، في بلاد العالم، نظرًا لغرابة الموقف والقدرة والسيطرة على ما لم يتصوره أحد (من نابلم في أسفل القناة والحاجب المائي بالقناة وارتفاع الساتر الترابي في شرق القناة)، وما جعل العدو في طمأنينة، وجعل جنودنا لا يغمضون عينا بغية تحقيق النصر دفاعًا عن الوطن.
وقد أوجب الإسلام على عموم المسلمين الخروج للدفاع عن الوطن حال الاعتداء عليه، وجعله فرض عين، إذا تعذر على الجنود دفع ذلك، فتخرج المرأة بلا إذن من زوجها، ويخرج الولد بلا إذن من أبويه، لأن درء المعتدي وصده من فروض العين على جماعة المسلمين.
قوانين النصر وشرف الجندية
ماهي قوانين النصر وشرف الجندية في الإسلام؟
إن حرب 73 لم تنل حقها من التعريف بها حتى الآن، وأطالب بأن يؤلف كتاب (عن حرب 73) يدرسها أبناؤنا في مرحلة الثانوية العامة، كما أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية جعلت المجاهدين (جهادات مشروعة)، في الإسلام منزلة لا تعدلها منزلة، والجهاد المشروع هو الذي يعلنه ولي الأمر، أو من يقوم مقامه ممن أنابه، وليس لطائفة أو جماعة أو جمعية، أن تعلن راية السيف على المسلمين أو غير المسلمين، لأنه افتئات على السلطة الشرعية، فإذا ما كان الاعتداء على الوطن فقد رأينا آيات القرآن تعلي قدر المدافعين عنه، وهو ما ورد كثيرًا في الثناء على المجاهدين وذم القاعدين، إلى عذر، والرسول "صلى الله عليه وسلم"، أخبرنا أن عينين لا تمسهما النار منها (عين باتت تحرس في سبيل الله، والأخرى بكت من خشية الله)، والرباط ومعناه الجندية، من خير الوظائف في الشريعة الإسلامية، لأن تأمين الحدود والدولة، يمكن من النهضة العلمية، والصناعية، فضلا عن الرقي الحضاري، والطمأنينة الأمنية، وقد رأينا أجنادنا في السادس من أكتوبر يتسابقون في عبور المانع المائي، ويتسابقون في رفع العلم على الساتر الترابي، ويتسابقون بمواهبهم الخاصة، في ميدان القتال، فاشتهر من بينهم محمد عبدالعاطي (صائد الدبابات)، واشتهر كثيرون بسمات خاصة في ميدان القتال، وكانوا يأبون الفطر في نهار رمضان، مع أنه مأذون لهم شرعًا؛ لأنهم في جهاد لأنهم كانوا يتمنون النصر من ناحية، والاستشهاد من ناحية ثانية، فيلقون ربهم، مقبلين، غير مدبرين، وصائمين غير مفطرين، وقد ساعدهم على تحقيق هذا النصر: عوامل عدة منها:
الوعي الديني بقيمة الدفاع
ما هي عوامل النصر في حرب 1973 والتي جعلتنا نسترد أرضنا وكرامتنا؟
عوامل النصر في حرب 1973 والتي جعلتنا نسترد كرامتنا كثيرة:
1- الوعي الديني بقيمة الدفاع عن الوطن ومنزلة الاستشهاد دونه.
2- تعظيم أجر الشهداء.
3- التدريب الجاد المجهد المضني، وقد شاركهم في التدريب قياداتهم، وكل من تحدث عن حرب أكتوبر 73 يذكر أنه في أرض المعركة (لم تكن هناك رتب إلا في الظاهر).
4- الكل في الواقع سواء، في الطعام والشراب، والإقامة.
5- الكل كان على قلب رجل واحد.
6- المنهج العلمي القابل للتطبيق على أرض الواقع.
(فيما يتعلق بالخطط العسكرية)، والتي يشيب من هولها الولدان، عندما نسمع ما قيل عنها من المشير الجمسي، والفريق سعد الدين الشاذلي، ومن آخرين تكلموا عنها، بما يكسبنا الفخار في قيادتنا العسكرية، وقدرتها على الإعداد والتخطيط والتنفيذ لتحقيق الأمل المرجو، وذلك قائم الآن إن شاء الله.
7- بالإضافة إلى وحدة الأمة الإسلامية وتضامنها مع مصر لخوض هذه المعركة، وقد أثنى السادات رحمه الله، علانية في مجلس الشعب، على الملك فيصل والشيخ زايد والشاه محمد رضا بهلوي، وآخرين، لمواقفهم الإيجابية، إلى جانب مصر في هذه المعركة، كما ذكر أسماء المتخاذلين، الذين أرادوا أن يتاجروا بالحدث، فكانوا سببًا في إسقاط القناع عن وجوههم.
8- والأقوى من هذا كله، أن الشعب لا أقول كان وراء الجيش، بل كان مع الجيش، وقبل الجيش، وبعد الجيش.
9- فقد تحمل الشعب الكثير من شظف العيش، وسوء الحياة تحت عبارة (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، وكانت مظاهرات التأييد تجوب الشرق والغرب في مصر تطالب الجيش بالإقدام.
10- فتح باب الدعم العسكري من قبل الأهالي، فجاب الفقراء قبل الأغنياء بما يملكون، حبا في الوطن ورغبة في ألا ينكسر الجيش المصري مرة ثانية، وأملا في الثأر من العدو الذي تجاوز حده، ونشر غطرسته، وأعلن أن جيشه لن يقهر، ولهذا جاءت البشارات سارة، رأينا قيادات إسرائيلية تُكسر بألويتها، ثم تأسر مثل (عساف ياجوري).
11- وقد ضرب الجيش المصري المثل الأعلى في الإنسانية في التعامل مع هؤلاء الأسرى، فأعطاهم الطعام والشراب وداوى المرضى وطبب الجرحى، على عكس ما صنعته إسرائيل عام 1967 حين كانوا يفرمون الجنود المصريين بالدبابات، ويقتلونهم عطشى، ومن أسروهم منهم قتلوه في سجونهم، مما يعلن شرف الجندية المصرية على غيرها من كثير من جنود الأرض.
أعلى المراتب للشهداء
لكل معركة شهداء، فما هي منزلة الشهداء؟ وماذا تقول لشباب اليوم؟
إن أعظم المراتب في الإسلام، هي مرتبة الشهداء، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم، إنها إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة قد تحقق في هذه المعركة، فالنصر لعموم الشعب المصري والأمة الإسلامية، والشهادة لمن اصطفاهم الله، واختارهم إلى جواره لتنال أعلى المراتب، في جنة الخلد، وأعطوا وعدا بالشفاعة في ذويهم، وأكسبوا أولادهم الفخر في الدنيا والمباهاة يوم القيامة، ويكفي أن الله وعدهم، ومن أصدق من الله قيلا، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، فهم أحياء حياة روحية، منعمين بكل معنى الكلمة، وإن كنا لا ندرك هذا.
وأحذر شباب اليوم من الانضمام إلى أي جماعة أو جمعية، توهمهم أنهم إن ماتوا سيكونون شهداء، لأن الشهيد من مات في قتال مشروع تحت راية ولي أمر عام (رئيس الدولة أو الحاكم) على اختلاف المسمى، وأما الخروج لجماعة إسلامية لقتل المسلمين الآخرين فمن قتلوه فهو شهيد، ويتحملون تبعة دمهم أمام الله، الذي قال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.....).
وقال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، وأما من قتل من الجماعات الإسلامية فإنه خارج عن ولي الأمر (صائل)، (باغ، أو محارب)، فقتله جائز شرعًا، في ضوء آية الحرابة في سورة المائدة، فليس له أجر عند الله، ولا عند الناس، وأما من يفجر نفسه، بين الجيش أو الشرطة أو عموم الناس، فهو منتحر، والجنة حرام عليه، بنص أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويعاقب في جهنم بما قتل به نفسه في الدنيا، فيلبس حزاما ناسفا في جهنم لينفسه، ثم يجمع شتاته، ليلبسه ثانية فيفتته، وهكذا، فلا تأخذوا بأقوال السفهاء، أنكم إن متم، متم شهداء، بل موتكم انتحار، والإسلام منه براء.
لماذا انتهت الحرب باتفاقية كامب ديفيد ودخولنا مرحلة السلام؟
السلام رسالة الأنبياء، ولولا الحرب ما كان السلام، والسلام مهم من أجل البناء والتنمية، وأن نعيش في اطمئنان، والحرب إجهاض وإهدار للمال والنفس، والإسلام دين سلام، ولكن خضنا الحرب من أجل السلام، كما قالها الزعيم الراحل محمد أنور السادات، عليه رحمة الله.
د.بكر ذكي عوض، عميد كلية أصول الدين السابق، بجامعة القاهرة، مع المحرر