تبحر بنا آيات سورة الكهف إلى رحلة ممتعة نعيش فيها مع قصص قرآنية عظيمة، وحوت تلك السورة عدة أسرار، منها فتن الدنيا الأربعة، فتنة العلم، وفتنة المال، وفتنة السلطة، وفتنة الدين، كما اشتملت سورة الكهف على كيفية النجاة من تلك الفتن.
والمتأمل في قصص سورة الكهف وخاصة قصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر سيتعلم منها حكمة عظيمة، وتتلخص تلك الحكمة في قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)؛ وقد حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم على قراءتها كل يوم جمعة.
فتن الدنيا الأربعة في سورة الكهف
إن المتأمل جيدًا في سورة الكهف سيجدها قد قصت لنا قصصًا عظيمة؛ قصة فتية أهل الكهف، وقصة صاحب الجنّتين، وقصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر، وقصة ذي القرنين، وتجمع هذه القصص فتن الدنيا الأربعة، وهي: فتنة الدين في قصة فتية أهل الكهف، وفتنة المال في قصّة صاحب الجنّتين، وفتنة العلم في قصّة سيدنا موسى وسيدنا الخضر، وفتنة السّلطة في قصّة ذي القرنين.
كهف الفتية المؤمنين أصحاب الكهف - أرشيفية
فتنة الدين
هي قصة مجموعة شباب تعرضوا لفتنة الدين، فهم قد آمنوا بالله عز وجل، ودعوا الناس إليه، برغم أن القرية التي عاشوا فيها كان يحكمها ملك ظالم غير مؤمن إلا أنهم لم يخافوا، بل إنهم عرضوا إسلامهم على الناس الذين رفضوا دعوتهم، ومع ذلك تمسك الشباب بإيمانهم يقول الله تعالى: (وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا..)
وما إن بدأوا بالدعوة إلى الله حتى كُذِّبوا واضطهدوا، فأوحى الله إليهم أن يأووا إلى الكهف يقول الله تعالى: (فَأْوُواْ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا)، وأيدهم الله بمعجزات عظيمة، فهم قد مكثوا في الكهف كما قال الله تعالى: (ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعًا ..).
فلقد حافظ الله على هؤلاء الفتية، إلى أن استيقظوا بعد 309 سنين، ووجدوا أن الناس جميعًا قد آمنوا وأنهم أصبحوا في مجتمع جديد كله إيمان وخير.
كهف الفتية المؤمنين أصحاب الكهف - أرشيفية
النجاة من فتنة الدين:
عندما ذكرت سورة الكهف القصص الأربعة بما فيها من فتن، كانت تعقب على كل قصة تعقيبًا يحمل العبرة من هذه القصة، ويرشدنا كيف نقي أنفسنا من هذه الفتنة، ففي الفتنة الأولى وهي فتنة الدين التي جاءت في قصة أهل الكهف، وللثبات على الدين والعصمة من هذه الفتنة يرشدنا الله تعالى في آيات سورة الكهف إلى: أهمية الصحبة الصالحة التي تساعدنا على الثبات: (وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا).
تذكر الآخرة دائمًا ومصير المؤمنين والكافرين وعدم التعلق بالدنيا الزائلة، بقول الله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا).
كهف الفتية المؤمنين أصحاب الكهف - أرشيفية
فتنة المال
ومن أجمل ما عرفنا من القصص القرآني، قصة صاحب الجنتين التي قرأناها في سورة الكهف، حيث قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا*كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا).
وتعرض لنا هذه القصة حكمة الله تعالى في تفاوت الرزق بين الناس؛ فهناك الغنى كما هناك الفقير، والقصة تتكلّم بواقعيّة عن حوار دار بين رجلين، أحدهما مؤمن فقير، يعلمُ يقيناً أنّ الحياةَ الدنيا لا تساوي شيئًا بجوار الآخرة، وما أعدّهُ الله تعالى للمؤمنين في الجنات.
والرجل الآخر هو صاحب الجنتين الذي فتنه غناه وأملاكهُ فظنّ أن هذا النعيم الدنيوي نعيمٌ دائمٌ؛ وهو رجلٌ كافرٌ بأنعم الله، رزقهُ اللهُ جنتين وبستانين عظيمينِ جميلينِ، وكانت تلك الجنتانِ مزروعتين بالأعناب وتحيط بهما أشجار النخيل، ولكنَ هذا الرجل بجهله وكفره فتنته الثمار والفواكه، حيث أمرَ اللهُ الجنتين بأن تُنتجا لذلك الرجل صاحب الجنتين شتّى أنواع الثمار فاستجابت الجنتانُ لأمرِ الله، فأنتجتا ثماراً يانعةً ناضجةً، تسرُّ الناظرين، وكان الطبيعي أن يكون موقف صاحب تلك الجنتين الشكر لله على هذه النَعم العظيمة الجزيلة، ولكنّه تجاوز وغفل وكفر بالنعمة، وأخذ يتكبّرُ على الرجل الفقير (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا).
هذا الرجل لم يؤمن، ولم يشكر الله على النعمة، ولم يتصدّق، ولم يقُم بما يجبُ عليه، بل كفر ومنع وتكبّر، ونسب الخيرَ والنعمة لنفسهِ، بدل أن ينسبها للمُنعِمِ المتَفَضِّل سبحانه وتعالى، وظنَّ أن هذهِ النعمة لن تَزول بل ادّعى أنّه إن رجع إلى الله فسيجد أفضل من هذه الجنات ليس إيماناً بالله؛ بل تعنّتاً وتكبّراً، فهو يظنُ نفسه صاحب المكانة العالية، وله الوجاهةُ والأفضليةُ على ذلكَ الرجل الفقير وأمثاله من الفقراء، (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا*وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).
حدائق - أرشيفية
ويأتي ردُّ الرجل المؤمن الثابت على الإيمان، المتمسك بالميزان الإيماني الصحيح ولم تخدعهُ الحياةُ الدنيا وزُخرُفها، فَيردُ على كُفر وتكبّر وتعنّت صاحب الجنتين، بحوارٍ هادئ هادف، يُذكّر صاحب الجنتين بأصلِ خلقته من ضعفٍ ومن مادةٍ ضعيفةٍ فيقول له: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا).
ويتابع أنّه ثابتٌ على الإيمان بالرب المُنعِم المتفضّل سبحانه وتعالى، وأنّ الأصلَ أن يرتبطَ قلبُ العبدِ بالله في الغنى والفقر وفي كل الأحوال، وأن الصحيح إذا دخل الإنسانُ أملاكاً لهُ أن يقول: ما شاء الله، وأن ينسب القوة والملك والنعمة لله سبحانهُ فيقول: لا قوة إلا بالله (لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا*وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا).
ويتابعُ الرجلُ المؤمنُ حوارهُ بكل ثقة وإيمان عظيمينِ ثابتينِ راسخَينِ، فيقول المؤمنُ لصاحب الجنتين إن كنتَ تراني فيما يظهرُ لكَ من علمكَ القاصر المتعلق بالظاهرِ، أنك أغنى مني مالاً وأكثر عدداً وقوةً ومنعةً ، فإن الله سبحانه وتعالى قادرٌ أن يعطيني خيراً من جنتك، وأخذ يحذّره من غضب الله تبارك وتعالى فإن عاقبة الكفر والبغي والاغترار بالنعمةِ عاقبةٌ وخيمةٌ، فالله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يهلك جنتيك ويدمرهما؛ بسبب اغتراركَ وبغيك وظلمك وكفرك (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا*أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا).
ثم يأتي عقابُ الله سبحانه وتعالى لذلك الكافر المعاند الذي اغترّ بالدنيا، واغترّ بجنتيه، فقاده غروره وكفره إلى أن غضب الله عليه، فاستحق العقاب من الله العظيم، جبّار السموات والأرض، فأرسل الله سبحانه وتعالى على جنتي ذلك الرجل صاعقةً دمّرتهما وأهلكتهما، فندم صاحب الجنتين على ما قدّم، وأدرك أنه استحقَ زوال هذه النعمة العظيمة الجليلة؛ بسبب كفرهِ وعنادهِ وغروره (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا*وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا).
ندمَ صاحبُ الجنتين على شركه بالله، وندم على كفرهِ بالنعمةِ، ولكنّ ندمهُ جاء بعد هلاك جنتيه وخسارته لما أنعم اللهُ عليه، وعلمَ وقتها أنه لا عظيمَ ولا ناصرَ إلا الله، ولا يستحقُّ العبادةَ إلا الله، وأنّ النعمة يجبُ أن تُقابلَ بشُكر الله عليها، وأدرك أنهُ أخطأ أكبر الخطأ حينما منعَ الصدقةَ، وحرم الفقراءَ والمساكين من حقهم في هذهِ النعمة.
النجاة من فتنة المال:
ثم تبين لنا الآيات كيفية العصمة والنجاة من فتنة المال، التي وقع فيها صاحب الجنتين، من خلال أمرين يأتيان مباشرة بعد القصة، وهما فهم حقيقة الدنيا، وهذا ما نراه بوضوح في أول آية أتت مباشرة بعد انتهاء القصة قوله تعالى: (وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاء فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرّياحُ وَكَانَ ٱلله عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا).
فالآية بها ومضات سريعة من بداية الحياة إلى وسطها إلى نهايتها، مراحل سريعة نمر بها في هذه الدنيا الفانية، سريعة الانقضاء، فلا نتعلق بها لننجو من الفتن.
والأمر الثاني هو تذكر الآخرة، خاصة موقف العرض على الله الجبار، ففي تذكر الآخرة قضية أساسية في العصمة والنجاة من الفتن كلها، فتنة الدين ثم فتنة المال.
(وَيَوْمَ نُسَيّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا* وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا* وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
فتنة العلم
أما القصة الثالثة فنجد فيها فتنة العلم، من خلال أحداث قصة نبي الله موسى عليه السلام مع الخضر، عندما سأله قومه: من أعلم أهل الأرض، فأجابهم بأنه هو عليه السلام أعلم أهل الأرض، فلقد ظنَّ بأن لديه من العلم ما يجعله أعلم أهل الأرض خاصة لأنه من أولي العزم من الرسل، فأوحى الله إليه بأنه يوجد من هو أعلم منه، لذلك طلب منه أن يذهب إلى أرض معينة عند مجمع البحرين، فقطع مسافة بعيدة في سفره إلى أن أدركه التعب الشديد، حتى إنه قال لفتاه، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَبًا).
وبعدها التقى الرجل الصالح الذي يملك علمًا لا يملكه الكثير من الناس؛ وهو علم الثقة بقدر الله تعالى، وأن لله تعالى في قضائه حكمة تحتم عليك أن توقن بتدبيره وإدارته لشئون الحياة، وهذا العلم هو علم معرفة الله حق المعرفة.
وقبل أن يصاحب سيدنا موسى الخضر، عليهما السلام، يشترط عليه الخضر كما قال الله تعالى: (... فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَيء حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)، فقال له موسى طائعًا: (سَتَجِدُنِي إِن شَاء ٱلله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْرًا)، وتخلل رحلتهما معًا ثلاثة مواقف، كانت في ظاهرها سوءًا أو ظلمًا بعكس ما في باطنها، وهي:
سفينة شراعية - أرشيفية
- السفينة التي خرقها الخضر عليه السلام، وكان سبب ذلك وجود ملك ظالم يسلب كل سفينة صالحة يراها.
- الغلام الذي قتله الخضر، وكان سبب ذلك أنه كان يرهق أبويه المؤمنين، لعصيانه وعقوقه.
- الجدار الذي أقامه الخضر من دون أجر في مدينة طرده أهلها منها، والسبب أنه كان لغلامين يتيمين، وكان تحته كنز مدفون لهما، ولو لم يقم الجدار لما حفظ لهما كنزهما.
ومن هذه المواقف الثلاثة نجد العلم الذي لا نراه في الكتب يعلمه الله تعالى لموسى، عليه السلام، ويعلمنا إياه أيضًا، وهو أن الله تعالى يقدر أمورًا قد لا نعلم الحكمة منها والخير المقدر فيها.
النجاة من فتنة العلم:
ثم جاءت الفتنة الثالثة وهي فتنة العلم في قصة موسى والخضر، وللعصمة من فتنة العلم والاغترار به، عرفنا من الآيات أنه لا بد من التواضع لله أولاً، ثم للمعلم. وهذا ما يظهر في قوله تعالى: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء ٱلله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً)، هذا التواضع جاء من سيدنا موسى مع أنه نبي ورسول من أولي العزم، بالإضافة إلى كونه كليم الله تعالى.
فتنة السلطة
وآخر قصة هي قصة ذي القرنين وما فيها من فتنة السلطة والجاه والمنصب، فنعرف من الأحداث أن ذا القرنين ملك عادل ينشر الحق والعدل والخير في الأرض، ويملك كل الأسباب التي تسهل له التمكين والنجاح في الحياة:
ذو القرنين - أرشيفية
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَاتَيْنَـٰهُ مِن كُلّ شَىيء سَبَبًا).
فكان يطوف بالأرض من شرقها إلى غربها لينشر الهداية للناس ويملأ الأرض بالعدل والإحسان، إلى أن وصل إلى قوم لا يكادون يفقهون قولاً، فقالوا له:
(قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
وبالرغم من امتلاك ذي القرنين الأسباب إلا أنه طلب منهم أن يعينوه حتى يعلمهم الإيجابية (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا).
وبنى الجدار الذي لا يزال قائمًا إلى الآن، والذي بسببه لا نعلم مكان وجود يأجوج ومأجوج حتى يخرجوا بإذن الله في آخر الزمان.
النجاة من فتنة السلطة:
وأخيرًا جاء الحديث عن فتنة السلطان، وبينت لنا الآيات أن علاجها يكون في الإخلاص، والتواضع لله تعالى، ورد كل الفضل في القوة والتمكين إلى الله تعالى: (قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى)، وفي النهاية حذرت سورة الكهف ممن يشرك بالله ولا يخلص في عمله له- جل وعلا- :
(قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً .. ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.. أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْنًا) (103 – 105).
وختمت السورة آياتها بأمر المؤمنين بالإخلاص في العبادة لله تعالى وحده: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا).
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقال "صلى الله عليه وسلم": (إن السعيد لمن جنب الفتن) صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم".