Close ad

"من المؤبد إلى رصيف المنيل".. "يسري" يفقد ضالته ويجدها عند الكلاب | فيديو وصور

30-9-2018 | 18:27
من المؤبد إلى رصيف المنيل يسري يفقد ضالته ويجدها عند الكلاب | فيديو وصورعم يسري
ميادة عبد المنعم

وحاورني مجذوب.. مجاذيب الشوارع عنوان عريض لا يعكس حقيقة أفراد ظهروا بهيئة مخيفة وثياب متسخة تخفي بداخلها أسرارًا لنماذج ربما هي الأفضل من غيرها، وهو ما دفع ذلك الجرو الصغير للوشاية بحقيقة الجريمة التي لم يرتكبها العم يسري ودفع ثمنها 25 عامًا من عمره.

موضوعات مقترحة

الصدفة وحدها جعلتنا نرى ذلك المشهد المثير الذي جعل قدماي تتحجران، وتعلنا عدم المغادرة قبل التقاط صورة تسجل مشهدًا فريدًا لرجل عجوز يبدو على هيئته أنه ممن يصنفون بـ"مجاذيب الشوارع"، حيث ظهر الرجل مستلقيًا على ظهره، تاركًا ذراعه الأيسر لكلب صغير راح يغط في النوم عليه، كرضيع اطمأن لأمه، بينما يرقد بسلام جرو آخر على بطنه المنتفخة، ويستلقي 3 آخرون تحت قدمه، في حين يقرر البعض الآخر، الاستيقاظ والتهام ما تبقى من لبن صغار الجرو، ملتفين حول إناء مستدير يأكل منه العم يسري وكلابه الضالة، غير مبال لأمراض قد تصيبه أو تمييز يفرق بين إنسان وحيوان لتعايش سلمي ربما لا يجده بين البشر.

البعض قد يظن المشهد مكررًا ومعتادًا لرجل يطعم بعض الحيوانات الضالة، وإن كان فقيرًا معدما يفترش الطريق، ولكن ما يلفت الانتباه أن تلك الكلاب الصغيرة تعمدت اللعب مع صاحبها الذي خلى بنفسه يتذكر تفاصيل كثيرة قاسية جعلت لصدره أزيزًا وبكاءً، وكأن الصغار لم يرتضوا لحاضنهم الحزن، لذا قرروا عمل فقرات استعراضية، استطاعت بنجاح إقناع العجوز في الاعتدال بجلسته وممازحتهم وتقبيلهم واحدًا تلو الآخر.

شعر أجعد كثيف يغلب عليه اللون الرمادي، تملؤه تعاريج شعرات التفت حول بعضها البعض كأحبال، بشرة ليست سمراء ولكنها مالت للاسمرار بفضل الأتربة وعوادم السيارات مع عدم الاستحمام، عين ترى والآخرى ارتخى جفنها، بعد أن أصيبت بشبه العمى، تحلق بحركات دائرية هنا وهناك من دون وعي، وأنف ضخم به بعض الندوب، وفم به القليل من الأسنان يعلوه شارب ليس بكثيف ولحية هزيلة.. هكذا بدت هيئة رجل سبعيني يرتدي عباءة رمادية شديدة الاتساخ تمزقت أطرافها وملأتها الأرصفة بالثقوب.

المشهد يستدعي المغامرة، لذا أتقدم خطوة، ولكن سرعان ما أتراجع خطوات خوفًا من هيئة الرجل وكلابه المنتشرة كحراس، لكن معلومة وردت إلي من حارس العقار المقابل لفرشة الرجل الغامض، تفيد بأنه قاتل وحكم عليه بالسجن، وهو ما جعلني أتساءل وكيف لمجرم قاتل أن يتبنى ما يقرب من 15 كلبًا في حين أنه لا يجد قوت يومه؟!



نصائح المارة كانت تدعوني للانصراف تفاديًا لردة فعله غير المتوقعة، باعتباره رجلًا مجذوبًا، إلا أن شيئًا ما كان يطالبني بالتقدم للأمام حتى ولو لاختلاس صورة تسجل ذلك المشهد الإنساني لرجل قاتل، ملأ قلبه الرحمة بحيوانات ضالة.

نجحت بعد محاولات فاشلة كثيرة، في التقاط بعض الصور لذلك المجذوب، ظنًا مني أنه لم ينتبه لصوت الفلاش، وأنه في عالم آخر ليس كعالمنا، حتى اعتدل في جلسته واستدار إلي بوجه مبتسم، ثم استقام متوجهًا نحو الجانب الآخر، وكأنه يريد متابعتي ومعرفة الأسباب التي جعلتني أقف أمامه لقرابة الساعة.

يترك العم يسري مكانه الذي وضع فيه بقايا مرتبة أسفنجية شديدة الإتساخ، وينفض عنه غبار بطانية تعج بالأتربة والحشرات جادت به أياد الرحماء من الحي منذ سنوات، وهو التوقيت الذي وافق مجيء فوج جديد من الكلاب الصديقة التي قفزت دون استئذان لمكان صاحبها العجوز، لتروح في نوم عميق مستلقة على ظهرها بعد أن أنهكها البحث عن طعام.

يعود يسري بعد دقائق قليلة من الجانب الآخر، ولا يجد لنفسه موطأ قدم ليريح فيه جسده، حيث انتصف ليل القاهرة، فإذا به ينظر لرفاقه الكلاب، ويضحك مشيرا لهم بيديه وهو يخاطبهم: "زي ما انتوا أنا أخدت كفايتي خلاص من النوم".

يتذكر الرجل أن أحدًا كان يراقبه فينظر إلي بطرف عينيه، ويتقدم بخطوات بطيئة للغاية، فأبتعد للوراء خطوتين، وأنا أحدث نفسي "شكلي هاخد علقة موت النهاردة والكلاب هيتعشوا لحمة" فإذا به وكأنه يسمعني فيقول.."قربي تعالي ماتخافيش.. أنت عايزة تصوريني ولا تلعبي مع الكلاب"؟

الرجل عاقل ويتحدث بطلاقة، وليس لديه مانع من التصوير، لذا بادلته ابتسامة يحملها نفس عميق شعر بالاطمئنان، وأنا أقول له: "يا راجل ما أنت حلو أهو وعاقل دا أنت وقفت قلبي عشان أخد صورتين، يلا بقا نعمل حوار ونشوف إيه قصة الكلاب".
عم يسري


وافق الرجل الذي لم يرتضي لنفسه بأقل من شارع السرايا الرئيسي بحي المنيل الراقي، كمقر دائم له، وإن شاركته فيه الكلاب والجراثيم، حيث اختار لفرشته البالية موقعًا إستراتيجيًا تحت ظل شجرة عملاقة يتحدى ظلها أضواء السيارات الفارهة بالقرب من برج شاهق، يسكنه صفوة المجتمع وبعض المشاهير.

يتقدمني العجوز، وأنا من خلفه حتى يجلس على عتبة حوض تم بناؤه لشجرة عملاقة لها عشرات السنين، واتخذه هو سكنا له، وجلس على سور ذلك الحوض مهذبًا ملابسه المهلهلة، ليعلن موافقته على إجراء حوار مصور ليفاجئني بطلبه: "افتحي الفلاش عشان احنا بالليل والصور هتطلع مضلمة حتى لو معاكي سمارت فون".

استجبت  لطلبه على الفور، وأنا أردد بيني وبين نفسي في صدمة.. "فلاش وتصوير ليلي وسمارت فون ؟ مع من أتحدث وما حقيقة هذا الرجل؟!

أشير له بالحديث، متساءلة عن سبب تبنيه لكل هذا العدد من الكلاب رغم ظروفه، ولماذا سمح لهم بالنوم على فراشه وذراعه وصدره كأطفال رضع، بل وأخلى لهم مكانه؟

يجيب العم يسري سؤالي بثلاث أسئلة: "هي الكلاب دي مش روح؟ هي لازم تقولي اتاخر علشان أنام؟ أو لازم الحيوان يتكلم عشان نحس إنه تعبان؟ مش هيزغدني هو ويقولي خدني جنبك، أنا لازم أحس بيهم لوحدي".

يتحشرج صوت الرجل الذي يتلعثم كثيرا في تجميع كلماته - لسبب مرضي - ويخفض رأسه عن شاشة الفيديو موجها إياها لليسار، وكأنها محاولة للهروب من الكاميرا فيقول:" اكتبي عنوان مقالك: الرجل الذي فضل عيشة الحيوان على البشرية".
عم يسري


ليه يا عم يسري؟
يجيب: مش لاقي بشرية.

أعيد عليه ما قاله متساءلة :"مش لاقي إيه؟" فيؤكدها مرة أخرى:" مش لاقي، أنا آسف في التعبير، لا مؤاخذة في الكلمة مش لاقي بشرية".

يستطرد السبعيني الذي صنف "مسجل خطر"- بحسب التقارير الأمنية - ويحكي: "أنا راجل دخلت السجن سنة 1975، وخرجت منه 1999، من سنة 99 وأنا على الرصيف يعني 19 سنة في الشارع، ملقتش مسئول يقولي خد ساندويتش فول أهو".

الطريقة الحسابية التي أجراها الرجل بسرعة فائقة، تؤكد أنه غير أمي بالمرة، وهو ما دفعني للسؤال: "عم يسري أنت متعلم؟

يجيب الرجل متأثرًا: "آه، معايا دبلوم من الخمسينات تقريبا".

قضى يسري 25 عاما خلف القضبان "مؤبد" - معلومة لم يبخل بها علينا المحيطون به، وأكدها هو مفصحًا عن التفاصيل: "ناس حاولوا يستغلوا فقري، كانوا عاوزني أمشي معاهم في طريق الخطيئة عشان الفلوس، بس أنا رفضت الغلط، عملوا هما الخطيئة وجابوني في رجليهم غيظ، وهددوني لو اتكلمت هتقتل، فسكت واتحبست ظلم وأخدت تأبيدة وانا معملتش حاجة ولا كان معايا محامي".

عم يسري


فين أهلك وإيه موقفهم بعد خروجك من السجن؟
"مفيش، أنا مليش حد خالص".

المارة وبعض سكان الحي الراقي بالمنيل، يشكلون عبئًا على الرجل بسوء المعاملة، حسب روايته: "كل شوية يهددوني يودوني سجن العقرب لو ما مشيتش من هنا وشوية سرايا المجانين، على فكرة أنا راضي بنصيبي بس هما اللي مش راضيين بيه، أنا راضي بالهم بس هما اللي مستكترين عليا الهم".

يتغير صوت الرجل الذي حاول مرارًا أن يتماسك، وهو ما جعل ذلك الجرو الصغير يقفز فجأة من فراشه ليستقر عند قدم العجوز، وكأنه يحاول مداعبته بعد أن وضع طرف جلباب يسري بين أسنانه اللبنية الصغيرة، وهو يهز رأسه يمينًا ويسارًا بسرعة، وكأنه يسأله القيام من مكانه أو شيء آخر لم نستطع ترجمته، لذا وجهت السؤال.

عم يسري هو كدا الكلب بيلاعبك؟
"آه" عاوز يقولي مالك، أصله متعود لما يصحى من نومه أحطه جنبي وأفضل ألاعبه ومش بنقعد ساكتين خالص، فأنا مشغول معاكي عنه عشان كده نزلي يقولي في إيه ساكت ليه عني".

يكشف العجوز سر تعلق الكلاب به ويقول: "باكرمهم، أنا باكل فول وهو بياكل لبن، كل يوم أول ما أقوم من نومي أروح أجيب لهم كيسين لبن، وأطمن إنهم فطروا وشبعوا وبعدين أروح أجيب الفول".

بتصرف على الكلاب؟
"طبعا، أنا باشتغل عشانهم، بلمع أحذية وبصلحها مش عاطل".

"صندوق خشبي أسود وفوطة زفرة وفرشاى وعلبة ورنيش وإبرة وخيط"- أدوات يستعين بها رجل الشارع، بعد أن ينهي جولته بالتنقيب على الأحذية القديمة في صناديق القمامة والشوارع ليعيد إصلاحها، ثم يبيعها لأصحاب الحاجات والفقراء مثله، مقابل جنيهين أو 3 على الأكثر.

لا تندهش عزيزي القارئ حين تجد العم يسري ليس كغيره ممن اتخذوا من ظروفهم وهيئتهم وسيلة للشحاذة ومد اليد بالتسول، فالرجل يرفض أن يعيش عالة على غيره كما يفضل أن تأكل كلابه الصغيرة من حر ماله وتعبه.
عم يسري


هتفضل عايش هنا يا عم يسري؟
تهتز الحروف على شفتيه ولا يهتز إيمانه: "هروح فين، قدر الله وما شاء فعل".

مبسوط بالعيشة هنا؟
أنا مبسوط بللي يجيبه ربنا، ثم راح يلوح برأسه يمينا ويسارا في حالة استنكار ورفض ما يفعله الآخرون: "بس مش مبسوط بللي بيجرى من العبد، اللي بيعمله العبد مش مبسوط بيه".

تعبان يا عم يسري؟
تقصدي أمراض؟ آه طبعا تعبان ومحتاج أدوية كتير.

في ناس بتساعدك؟
آه في ناس بتساعدني وناس عاوزة تدفني وأنا نايم تحت الشجرة.

يدفنوك وأنت عايش؟
يبكي الرجل ويغمض عينيه بعد أن تقطعت بالبكاء.. "أنا مش عايش".

نحاول اختبار معلوماته لنأخذه لجانب آخر بعيدًا عن الدموع، فنكتشف أن الرجل سياسي محنك، ويعلم أن مصر مرت بثورتين، ويعلم أسماء الوزراء والنواب، كما أنه على دراية تامة بأخبار النادي الأهلي.

يرى عم يسري علامات دهشة سيطرت على ملامحي، وهو ما جعله يزيدني من الشعر بيتا فيقول: وعارف كمان المشكلة اللي حصلت بين شيرين عبد الوهاب وعمرو دياب، وإنهم اتصالحوا، فنضحك أنا والرجل وتزول كل التعجبات.

مفاجآت الرجل الذي أبهرني حديثه لم تتوقف، حيث راح يلتفت للخلف ليخرج من تحت خرقة قديمة، صحيفة قومية تحمل تاريخ اليوم.

يضرب عم يسري جروه الصغير على رأسه ضربة خفيفة بالجريدة، وكأنه يهذبه لرغبته في التقام الصحيفة بفمه، ويقول للجرو الرضيع "دي مش للأكل دي للقراية يا حمار".

ظروف وأحداث كلها وقفت أمام الرجل الذي قضى شبابه في السجن واتبع شيخوخته على قارعة الطريق، من رصيف لآخر حتى امتلأ جسده بالجراثيم والميكروبات التي أخذت تنهش في لحمه وعظمه، ومع هذا وذاك يرفض اقتراحي الذي ظننت أنه سيجعله يطير بغير جناحين، فرحا.

يرفض عم يسري الانتقال من حياته غير الآدمية وترك الرصيف والتوجه لإحدى دور رعاية المسنين، ويرجع سبب الرفض لخوفه على مصير كلابه الصغيرة التي لم يشتد عودها، ويطلب مني الاطمئنان عليها أولا قبل الرحيل عنها.
عم يسري


رسائل تخللت حديثه جعلتني أتضاءل شيئا فشيئا أمام إنسانية رجل يلفظه المجتمع، ويعتبره مجذوبا محملا بالأمراض، وهو الذي طبق أرقى صور الرحمة بالحيوان والسعي في الجد والكسب الحلال والرضا بما كتبه الله، وإن كان في نظر القانون مجرم قاتل.

يرضى العم يسري بقضاء الله، وما حملته له الأقدار، وإن عاش وحيدًا مهانًا، في الوقت الذي لا يكتفي فيه كثيرون من حياة تفيض بالنعم، ويسلكون طريق الحرام ويملأون الأرض ضجيجًا وفسادً للحصول على المزيد والمزيد من مال الغير.

وعلى ما يبدو أن انهماك الرجل بسرد التفاصيل لم يشغله عن آداب إكرام الضيف، لذا استأذنني في أن أنتظره دقيقة يحضر فيها ما تيسر لي "حاجة ساقعة" لنستأذنه نحن في غلق الكاميرات وإنهاء الحديث.

عاوز تقول حاجة قبل ما أمشي يا عم يسري؟
عاوز أقولك لا إله إلا الله وأقولهم حسبي الله ونعم الوكيل.
عم يسري
 
عم يسري
 
عم يسري
                   

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة