تاريخيًا شهد الاقتصاد المصري تنفيذ عدة برامج إصلاح اقتصادي؛ بدأت ببرنامج أُطلق عليه الانفتاح الاقتصادي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ثم برنامج ثاني في التسعينيات كان عماده الرئيسي هو الخصخصة، ثم برنامج ثالث في بداية الالفية الثانية.. وللإنصاف فإن كل هذه البرامج حققت نجاحات رقمية في مستويات مختلفة وبدرجات متفاوتة لكن أيا منها لم يستطع تحقيق الاستدامة والانتقال من مرحلة الإصلاح إلى مرحلة الانطلاق وأصبحنا وكأننا نحتاج مع كل عقد زمني إلى تنفيذ برنامج جديد لإصلاح ما لم يتم إصلاحه في وقت سابق وهو ما يشكل بالمعايير الاقتصادية منحنى غريب وغير موضوعي.
موضوعات مقترحة
وسعيًا لتفادي تكرار الأخطاء اقترحت ضرورة أن يتم استثمار نجاح البرنامج الاقتصادي الأخير ببرنامج إصلاح اجتماعي يستهدف تغيير الأسس الفلسفية للعقد الاجتماعي ووضع تعريفات مقبولة لمصطلحات جرى التعامل بها علي إطلاقها؛ حتي يكون هناك توازن فيما يتحقق من نتائج اقتصادية وأخرى اجتماعية وحتى يمكن الوصول بنتائج الإصلاح الاقتصادي وعوائده للحياة اليومية والمنظومة المعيشية للمواطنين من ناحية، وتوفير بيئة اجتماعية داعمة ومساندة للإجراءات الاقتصادية من ناحية ثانية وبما يضمن تلافي السبب الرئيسي لعدم استدامة نجاح البرامج التاريخية السابقة.
وأعتقد بدون تحقيق هذه المعادلة سنظل نتحرك في دائرة مفرغة ومثال ذلك ما أثاره المقال السابق من مناقشات في عدة جوانب منها مثلًا إشكالية الموروثات والشعارات التقليدية السلبية؛ ففلسفة الموروث السائد التي تتعامل كمثال مع بنود الأجور كلها كحق مطلق مستحق في كل الأحوال لا تأخذ في حسبانها التوازن بين حق الموظف وحق العمل وحقوق الاجتهاد والتميز للآخرين؛ فحق الموظف من منظور ما يمكن تأسيسه علي ساعات عمله وتواجده وأدائه التقليدي لمهامه أمر مقدس إلا أن هذه القدسية لا يمكن أن تنسحب على بنود الأجر الأخرى المرتبطة بنتائج هذا العمل ومدى المساهمة في تحقيق أهدافه مثل المكافأة والبدلات والحوافز والأرباح فهذه لابد وأن ترتبط بالنتائج مثل تنافسية المنتج وتحقيق الأرباح والابتكار.
هنا التعامل بالمورثات يؤدي في هذه الحالات إلى ظلم المجتهدين والمبتكرين والمخلصين ويؤثر بالسلب علي أهداف المنشأة وبالتالي قدرته على الاستمرارية والنجاح، ومن ثم نصبح أمام مقولات حق يراد بها باطل تشكل معوقا للإنجاز والابتكار وتؤثر بالسلب في حسابات ومخططات أي مستثمر ناجح، ومن ثم فإن التخلص من الشعارات البالية لا يعني أي إهدار للمكتسبات التاريخية للعمال والموظفين أو المنظومة الاجتماعية للعمل بقدر ما يعني إعادة تعريفها وضبط فلسفة المفاهيم بما يضمن منح كل ذي حق حقه وتحفيز المبدعين والمخلصين في أعمالهم ويحقق أهداف العمل في الوقت نفسه.
وفي اتجاه معاكس فإن هناك الكثير من القيم الموروثة التي تلاشت ونحتاج لإعادة إحيائها وعلى رأسها قيمة العمل وارتباطه بالقيمة الاجتماعية للمواطن وقيمة وتفوق العمل الخاص والحر علي السلك الوظيفي سواء الحكومي أو غيره.. هذه القيم الإيجابية هي التي أنتجت نموذج رجال أعمال الوطنيين مثل طلعت حرب، وعبود باشا، وأفرزت نموذج الموظف المجتهد الذي يرتبط مستوى احترامه بمستوى أدائه لعمله، كما هو في الصورة الذهنية لموظفي أفلام نجيب الريحاني، ويوسف بك وهبي، الذي كان دائمًا مصحوبًا بلقب الأفندي، ليس كلقب ولكن كنموذج للتقدير والاحترام، وما بين هذا وذاك، تاهت مثل هذه القيم في خضم الأحداث المتلاحقة خلال العقود الماضية وهي لا تكتسب أهميتها من كونها قيما أخلاقية ولكنها في الحقيقة تترجم لأرقام إنتاجية واقتصادية لتدخل في حسابات الفرص والمكاسب سواء على مستويات الأشخاص أو المؤسسات والشركات وصولا لحسابات أشمل وأكبر على مستوى الاقتصاد القومي ومعدلات التشغيل والبطالة ومستويات الدخول والقدرة الشرائية للمواطنين، وفي ذات السياق يأتي التعليم كهدف وقيمة ووسيلة مؤثرة على كافة المكونات الاقتصادية والاجتماعية.
في التقرير الشهير الذي كتبه جيمس هارفي بمعاونة عدد من الخبراء في مجالات التعليم والاجتماع والثقافة والاقتصاد، وتم تقديمه للرئيس الامريكي رونالد ريجان عام 1983 تحت عنوان مثير ( أمة في خطر) يقول جيمس في تعقيبه على التقرير أن الخطر المقصود كان في الاصل هو خطر انهيار القيم الامريكية الايجابية سواء بتراجع بعضها او التخلي عنه أو جمود البعض الآخر وهي القيم الحاكمة للتفوق الأمريكي في كل المجالات لذلك كان هذا العنوان المثير لهذا التقرير الذي استهدف المنظومة التعليمة وتطويرها لتصحيح المفاهيم وإعلاء القيم الأمريكية الإيجابية والقضاء على السلبيات التي لحقت بعضها وتطور البعض الآخر.
وفي نفس الإطار يجب أن يتم التعامل مع كافة بنود برنامج الإصلاح الاجتماعي المقترح كمساند ومستثمر لنجاح البرنامج الاقتصادي وصولا إلى رؤية مجتمعية تدعم وتحفز قيم العمل والإنجاز والنجاح وتساعد علي جذب الاستثمار، بل ولعلها تصبح من عناصر الجذب غير التقليدية الضامنة لانطلاق اقتصادي واجتماعي مستدام وصولاً لإنجاز حضاري غير مسبوق في تاريخ مصر المعاصر.