قلبي مع نقيب الموسيقيين الفنان الكبير هاني شاكر، في قرار مجلس نقابة المهن الموسيقية، بمنع عدد من المؤدين الشعبيين من العمل، والمعروفين بـ "مغني المهرجانات"، وسحب تصاريحهم للغناء، وهو القرار الذي ضم لأول مرة 19 اسماً من "مؤدي المهرجانات" وهم: حمو بيكا، وحسن شاكوش، وكزبرة، وحنجرة، ومسلم، وأبو ليلة، وأحمد قاسم فيلو، وأحمد موزة، وحمو طيخة، وريشا كوستا، وسمارة، وشواحة، وولاد سليم، والعصابة، والزعيم، وعلاء فيفتي، وفرقة الكعب العالي، ومجدي شطة، ووزة، وشكل، وعمرو حاحا، وعنبة.
حقيقة، القرار ليس وحده الحل، وكذلك حملات السخرية التي طالت الممنوعين من الغناء، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً من أسمائهم التي تبدو غريبة بعض الشيء، ولكنها جزء من حملات الدعاية لكل منهم.
القضية أكبر من كونها ظاهرة مجتمعية، غالباً ما تكون ناجمة عن معاناة مجتمعية، وفقدان القدوة، وهذا النوع من الأغاني لا يعيش طويلاً، ولكن خطره في التمادي، والتأثير على الأجيال.
ولهذا فإن سياسة المنع وحدها لن تكون ذات جدوى، بل إنها يمكن أن تساهم في عملية انتشار أكبر لهذه النوعية من "المهرجانات".
ومن الممكن أن نتفق مع قرار النقابة، فهي نقابة مهنية تستهدف حماية أعضائها وحماية المهنة.. ولكن ماذا عن حماية المجتمع من التمادي في إفساد الذوق العام؟!
هذا السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كمجتمع أولاً، قبل أن نوجهه للدولة المسئولة عن جودة "المصنفات الفنية" والحفاظ على قوة وتماسك هذا المجتمع، لأن فساد الذوق العام هو إفساد للهوية الوطنية التي يجب أن يشارك الجميع في الحفاظ عليها.
في مخططات تدمير هوية المجتمعات، التي تم تنفيذها عبر التاريخ، كان دائما الهدف هو اللغة والثقافة المجتمعية، وهو أمر يجب أن تدركه الدولة المصرية جيداً، لأن القضية تعني المساس بالوعي الجمعي والانتماء الوطني.
الأزمة لا تهدد مصر وحدها، لكنها تهدد العالم أجمع والإمبراطويات الكبرى القديمة، وربما كان تأثير العولمة في الثقافة والهوية الوطنية من القضايا التي أقلقت الدول المتقدمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين ولازال هذا القلق حاضراً حتى اليوم لدى بعض الدول، فمثلاً كندا ودول أوروبا، خافت في يوم من الأيام، أن تجتاحها الثقافة الأمريكية فتصبح نسخًا مكررة من أمريكا، وهو ما يعني طمس هويتها الثقافية، وذلك لأن الثقافة الوطنيّة مبدأ قوي ومهم في تأصيل انتماء الأفراد داخليًّا، ثم في مدّ جسور التفاهم والتعاون خارج حدود الدولة.
التهديد الذي يواجه مصر منذ العقد الأخير في القرن العشرين، يتمثل مباشرة في اللغة العربية، وهو مالم ينجح فيه الاحتلال مابين القرنين التاسع عشر والعشرين، اللغة العربية لم تعد تهددها العامية ولكن ما يطلق عليه "العامية الفرانكفونية"، وهي الخليط بين العامية المصرية وبعض المصطلحات الأجنبية، التي تم مزجها بمصطلحات "الرفض المجتعمي" وطغيان الشكل المادي على القيم والعادات المجتمعية.
التهديد الأعظم، للثقافة المجتمعية المتمثلة في الفلكلور الشعبي والأغاني التراثية، المرتبطة والناتجة عن البيئة المصرية، فحتى عقود سابقة كانت هناك الأغنية الشعبية، التي تخصص فيها مطربون لهم أساليبهم الخاصة، ولم يكن الجمهور هنا من الطبقة الوسطى أو "ولاد البلد" فحسب، ولكن كل الطبقات، وبعض كبار المطربين كانوا يتنافسون في الغناء الشعبي.
وهنا أرى أن قرار المنع ضرورة، لكنه في ذات الوقت هو أضعف الحلول، لأن الممنوع مرغوب، وهناك من ينتظر هذا القرار ليبني عليه حملات دعائية تفوق آثار قرار المنع!
الحل الواقعي يجب أن يكون مجتمعياً، تشارك فيه منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية الكبرى، لأن الإضرار بالذوق العام، هو إضرار بالوطنية المصرية وإرثها وعمقها الحضاري .. ومستقبلها أيضاً..
المطلوب وقفة جماعية، لأن الكل مهدد.. وليس الموسيقيين وحدهم..