Close ad

دفتر الأمومة الحزين

21-3-2021 | 14:57
الأهرام المسائي نقلاً عن

مشهد (1(

زوجتها أسرتها الفقيرة أول من طرق بابهم، كان فقيرًا وهذا يحتمل ولكن غير المحتمل أن يكون نكديًا كئيبًا كسولًا لا يحب العمل، لم يتعلم ولذا لم يجد أمامه سوي العمل في وكالة الخضار بالإسكندرية، كانت مهمته يسيرة يفرز الجيد من المتوسط من الرديء في الفاكهة والخضار.

أنجبت أربع بنات، كان بجهله ينتظر «الذكر» المخلص والفارس القادم من رحم الأم التي أنهكها الفقر والزوج والحزن، ترك البيت والبنات والزوجة والإنفاق وكل شيء بحجة أن امرأته أنجبت له البنات، جمع إلى النكد والكآبة الغباء وسوء الخلق والكسل.

لم تجد الزوجة بدًا سوي العمل في أحد المصانع من السابعة صباحًا حتي الثالثة عصرًا، بدأت مسيرة تحمل المسئولية وحدها، زوجت ابنتين بعد كفاح كبير وعنت لا يتصوره عقل، ما زالت تسدد حتي الآن في ديون زواج بناتها، إحداهما تزوجت منذ ثلاث سنوات وأنجبت وهي ما تزال تسدد في أقساط الزواج.

الجميع يعرف مأساتها، بعض التجار الدائنين يرحمها فيتركها لثلاثة أشهر لا يطلب منها شيئًا، وإن جاءت لتعطيه قال لها: يمكنك التأخير يا أم فلان، والبعض الآخر لا يرحمها أو يمهلها، في اليوم الأول من كل شهر يهاتفها فتسرع نحو السداد قبل السجن وبهدلته.

سمعت عن معاش للمعاقين تصرفه الدولة،قالت: لماذا لا أطلبه لابنتي المعوقة فكريًا ولديها صرع، أنهت كل الأوراق، قالوا لها ما دام لها أب سيخرج المعاش باسمه، استولي الأب على مبلغ 400 جنيه «معاش ابنته»، ولم يعطها منه شيئًا أو يشتري لها منه شيئًا ذرًا للرماد في العيون.

بكت الأم طويلًا، صرخت فيه، استنجدت بالناس حولها، توسلت إليه دون جدوي، ذهبت مرة أخري للشئون الاجتماعية، قصت عليهم القصة فصرفوا مشكورين للابنة مبلغ ثلاثمائة جنيهًا أخرى.

هكذا سارت حياتهم، الجيران يساعدونها، وأهل الخير يعاونونها، وبعض الأطباء يعيدون لها قيمة الكشف، و«الدنيا ماشية» كما يقول المصريون.

الأم في صراع يومي مرير لتدبير أساسيات الحياة فهم لا يعرفون الرفاهية، تدرك ذلك حينما تنظر إليهم من أول وهلة، سكن مزرٍ وملابس رثة، وهيئة محطمة، لا تعرف الابتسامة طريقًا إلى وجوههم.

دخلت البنت المصابة بالصرع مدرسة أحمد شوقي الحكومية التي تقبل ذوي الاحتياجات الخاصة، تذهب أيامًا وتغيب أخري، المعاملة في هذه المدرسة جيدة، فسح ورحلات لكن دون دراسة حقيقة، لا ذنب للمدرسة التي يكفي عليها أنها تتحملهم رغم إعاقاتهم، ولا ذنب للطالب فإمكاناته العقلية والبدنية أقل من مواكبة الدراسة، ولا ذنب للأسرة فأغلبها غاية في الفقر والعوز.

لا يكدر صفو الأسرة البائسة سوي حضور الأب بين الحين والآخر، يصيح.. يشتم لأي سبب، أكبر مصيبة أن يتحول الأب من سند وعون وستر إلى عبء كبير على أسرته تود أن تتخلص منه.

رسالة هذه الأم ما زالت طويلة، إنها لن تتخلي عن بناتها مهما كان الثمن، وجدت رجالًا كثيرين يتخلون عن أسرهم، الرجولة بدأت تخفت وتغيب وتندثر تحت مطرقة الفقر والفساد والتحلل الأخلاقي والمخدرات، ولكني لم أر أمًا تتخلي عن أولادها، إنها الأمومة حقًا.

مشهد (2)

كان إداريًا متميزًا ينجز أصعب المهام في أسرع وقت وبطرق مبتكرة وبسلاسة دون مشكلات أعجب به رؤساؤه.. كانوا يسألونه: من علمك هذا؟ فيجيب سريعًا: أمي ويحكي لهم عنها، فيقولون: نريد رؤية هذه السيدة؟ هذا المصرفي البارز ما كان يمكن أن يكون هكذا لولا هذه الأم البسيطة.

مات أبوه فجأة ودون مقدمات ولم يجاوز الـ 35 عامًا، صمدت الأم، ضمت ابنها وابنتها إلى حضنها الذي جمع بين الرحمة والقوة، والحنان والحزم، كان لديها من البصيرة والحزم والحسم واتخاذ أصعب القرارات التي تصعب على أي مدير.
لم تكن تعرف في الزراعة ولكنها زرعت الأرض التي تركها الأب وزادت مساحتها، لم تدخل دنيا المقاولات من قبل ولكنها بنت لهم بيتًا ولم يكن لهم قبل ذلك، لم تشعرهم لحظة بغياب الأب لا تهاون مع أي مقصر، البيت خلية من النحل.

تخرجت البنت من الجامعة، تزوجت أنجبت أحفادًا منهم اثنين من الأطباء وثالث مهندس في الأجهزة الطبية، وخرجت الابن مصرفيًا شهيرًا.

أعظم ما قامت به أنها خرجت أولادًا وأحفادًا أسوياء ذوي بصيرة تفيد المجتمع، لا هم لها الآن سوي الدعاء لهم، ولا هم لهم سوي برها وإكرامها.

مشهد (3(

كانت في ريعان شبابها، طلقها زوجها ظلمًا قبل أن تجاوز الثلاثين، ترك طفليه معها دون نفقة أو اهتمام، خرجت للعمل في سوق المدينة تخصصت في بيع الجبن والزبدة التي تجلبها من القرية.

عرف الجميع مذاق وروعة ما تبيعه، لا تعرف الغش أو الخداع، ظلت تستحث ولديها على المثابرة وطلب العلم، حتي أصبح ابنها الأول أستاذًا جامعيًا، والآخر مهندسًا، رفضت الزواج خوفًا على أولادها، وأصرت على الكفاح، ما تزال تكافح وتبيع في السوق حتي الآن، لا تستنكف ذلك حتي بعد أن صار ابنها أستاذًا في الجامعة، فهي ترفض أن تكون عالة على أولادها، سلام على الأمهات رمز الربوبية على الأرض، رمز العطاء المتواصل دون منّ ولا أذي ولا انتظار مقابل، سلام على التي جعل الله الجنة تحت أقدامها، وسلام على الأبرار في كل زمان.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: