Close ad

إلَّا.. الطابق السادس في «الأهرام».. (17)

17-2-2021 | 14:36

«أيوسف ما هذا السكوت»؟! هذا السؤال وجهه أستاذنا الجليل توفيق الحكيم في رسالة بخط يده إلى كاتبنا المبدع يوسف إدريس، باعتباره كما وصف نفسه (شيخ حارة الأدباء) مفضله على الوصف الذي كنا نناديه به (شيخ الأدباء)، وقد رأي من واجبه أن يسأل عن حال أديب مرموق هو «يوسف إدريس» يراه في مبنى «الأهرام» بجسمه، ولا يراه على صفحاته بقلمه.. ولا شك أن الآلاف من القراء يشاركونني في هذا السؤال كما قال: أين ذهب القلم المطبوع؟ ولماذا سكت هذا الصوت المسموع؟
 
كان ذلك في أجواء عام 1979 بعد المعركة التي خاضها عندما أوقف النظام مسرحية «البهلوان» التي كتبها يوسف إدريس وأخرجها جلال الشرقاوي على مسرح معهد الموسيقى العربية بـ«شارع الجلاء» (وقد تعرضت لهذا العمل المسرحي في الحلقة العاشرة من هذه السلسلة)
 
لم يسكت الغضب عن يوسف إدريس، لكنه صمت، وللصمت دلالات واسعة في سرديات الكاتب الكبير، ومن أراد المثال فليرجع إلى القصة الرائعة والمروعة (بيت من لحم) وهو الصمت الذي استرعى انتباه شيخنا توفيق الحكيم.
 
* ولا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام»..
 
أرسل يوسف إدريس رده خطيًا على رسالة «شيخ حارة الأدباء» الخطبة وجاء فيها:
 
«أستاذنا الكبير توفيق الحكيم رسالتك تلك «ولو أنها بلا تاريخ» لها «قيمة تاريخية» عندي، وعند أي كاتب في مصر والعالم العربي، فهي من شيخ الكتاب يقرأ وحين يحس بغياب كاتب، وقد أكون أنا الغائب هذه المرة، ولكني لن أكون الأخير، فما أكثر الأسباب التي ترغم الكاتب على الغياب في عالمنا هذا، ولكن المهم أننا - أخيرًا - قد حبانا الله بشيخ جليل لفنوننا وآدابنا (يتمم) بين الحين والحين على أبناء المهنة، ويعرف من مات، ومن عاش، ومن غاب، ومن يغيب.
 
وبعد،،،
لم أسكت يا أستاذنا، ولن أسكت، فالسكوت ليس نومًا، ولا بتأثير مخدر يضعه كاهن لكاتب، السكوت للكاتب موت محقق، وإذا كنت أنا قد سكت عن «الأهرام» أو سكت الأهرام عني، فأسباب السكوت عاصفة هوجاء يعرفها الناس جميعًا، وباستطاعتك أن تسأل عنها أي عابر سبيل في شارع الجلاء.
 
إذا كان هذا قد حدث، فلا تزال المسئولية مشتركة، ولا يزال السؤال حادًا كالنصل: وما ذنب القارئ؟!
 
وقراء كثيرون قد أرسلوا يسألونني ويلحون في السؤال حتى اضطررت أن أرسل لبعضهم خطابات خاصة، أما حين يجيء السؤال من أشهر كاتب وأشهر قارئ، بالتالي فلا أملك، ولا يملك الأهرام، فيما أعتقد إلا أن نجيبه على الملأ.. ولا أملك أنا أيضًا، إلا أن أعدك، أيها الأستاذ والقيمة والرمز أن أكون عند حسن ظنك وظن القراء الأعزاء.. والآن أبدأ الكتابة عن رحلتي الأخيرة إلى أوروبا، تلك التي بلسمت الجراح، وملأني التأمل لحياتنا خلالها بكثير من الطمأنينة.
 
ودومًا أنت هكذا، وستظل سباقًا إلى المودة وإلى السلام تحياتي لك وللكاتب والقراء جميعًا بعام جديد حافل بكل ما هو (أرفع) و(أنفع) في الفكر والخلق والإبداع.
 
* ولا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام»..
 
سافر يوسف إدريس إلى أمريكا وعاد ليكتب - من وحي هذه الزيارة - رواية (نيويورك 80) كنا نضرب كفًا على كف، تعجبًا من جسارة (الأهرام) في نشر فصول النص المسرحي - الرائع والمروع - صفحة كاملة على مدار أربعة أسابيع متواصلة، وكنا أيضًا نرفع حواجب الدهشة ولا تنخفض، إعجابًا من جرأة يوسف إدريس وعنفوانه الإبداعي.. 
 
وقال لي يوسف إدريس، وهو يهديني هذا العمل العظيم، إنه تحدث مع شخصية البطلة - د.باميلا جراهام وهي طبيبة نفسية ومعالجة نفسية حاملة دكتوراه في ثقافة الجنس وتعمل في مستشفى سنترال بارك كواحد من أكبر مستشفيات أمريكا، وتحترف البغاء!
 
لتبدأ حوارية كاشفة صارخة توجه فيها الكلام للدكتور الكاتب القادم من العالم الثالث بكل وساوسه ومتاعبه وثقافته وعقده ومعتقداته، وقد احتج عليها مشمئزًا ومستنكرًا أنها دكتورة مثقفة وتبيع جسدها، لماذا يسمى كل شيء هنا باسمه تمامًا وعلى حقيقته؟ ألا يخجلون؟ على أية حال نحن أكثر أدبًا، سموه نفاقًا أو ادعاء، ولكنه أرحم من الحقيقة الصارخة، والأسماء التي بالضبط على مسماها.
 
بعد هذه الرواية.. فاجأ المتمرد يوسف إدريس، وهو الفنان المتمرد دائمًا، إبداعيًا وشخصًا وشخصية!!
 
* ولا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام»..
 
وإذا كانت السياسة وساستها، قد خذلوا يوسف إدريس، فإن جامعة القاهرة، والبحث النقدي الأكاديمي قد انتصر له انتصارًا... وحول هذا المعنى سنتوقف بعضًا من الوقت.. بعضًا من الاستدعاء.. بعضًا من إنارة اللحظة الراهنة: سياسيًا.. وثقافيًا.. وصحفيًا..!! لاسيما واقعة (يموت الزمار، جريدة الأهرام -18/4/1981)
 
وإلى المشهد القادم في رحاب الطابق السادس.. إن كان في العمر بقية...!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة