Close ad

المئوية الثانية لديستويفيسكي

8-2-2021 | 12:41
الأهرام اليومي نقلاً عن

قررت هيئة اليونسكو اعتبار عامنا المئوية الثانية لفيدور ديستويفيسكي 11 نوفمبر 1821 – 9 فبراير 1881 باحتفالات في العالم.
وتقول اليونسكو في أسباب قرارها:

- العبقرى الروسى جعل من الرواية مختبرا أدبيا وفلسفيا ودعا إلى إنقاذ العالم بالجمال. لا أحد يعتقد أنه بقى فى تاريخ الأديب الروسى ذى القيمة العالمية فيدور ديستويفيسكى، ما يمكن أن يظل مجهولاً. ولعل أحدا لا يتوقف عند قصصه القصيرة، وما صاغه من أشعار قل من يرددها، مثلما يفعلون مع أشعار معاصريه ومن بعدهم، ومنهم ألكسندر بوشكين وفلاديمير ماياكوفسكى وآخرون.

وعلى الرغم مما تتسم به هذه الأشعار، والقصص القصيرة من قيمة أدبية تضارع ما أنتجه من روايات طويلة، فإن أحدا من الناشرين لم يتوقف عندها ليوليها ما تستحق من اهتمام. لم يكتف فى شبابه بكتابة الأعمال الأدبية. بل إنه برع فى تدوين الرسائل واليوميات التى أصبحت فيما بعد نصوصا أدبية مهمة. لا تقل جمالا وعذوبة عن إبداعه الأدبى الخالص.

من هذه الرسائل رسائله إلى زوجته. وأخرى إلى أخيه وغيرها تحظى بما هو أكبر من ذلك القدر الذى يضيفونه إلى هذه الأشعار وتلك القصص القصيرة. ديستويفيسكى ليس كاتبا كبيرا فحسب، عاش وكتب ورحل فى القرن التاسع عشر. ولكنه أيضا صاحب رؤية وقدرة على التعبير الأدبى جعلته يقف فى مصاف أدباء العالم الكبار من يومها وحتى الآن. سيرته الذاتية عامرة بالسعادات القصيرة العابرة والأحزان المستمرة والمتواصلة، منذ تخرج فى مدرسة الفنية العسكرية الإمبراطورية. عمل مهندسا وكان أجره ضئيلا محدودا لم يوفر له لقمة عيش أو كوبا من الشاى.

تحول إلى الأدب الذى ذاق مع بواكيره مرارة الحرمان وقسوة الحياة، وتحمل آلام خيبة الأمل والخلاف والاختلاف. وحاول أن يحتمل تبعات الخروج عن المألوف والسقوط فى متاهات الإغراق فى التشاؤم. استمتع بكل أشكال الحرية التى سرعان ما ألقت به فى السجون. وكان على أقرب مكان لتنفيذ حكم الإعدام الذى صدر بحقه. قبل أن يُخفف الحكم بآخر يقضى بالأشغال الشاقة. قالوا عنه انه إنسان مريض، وإن لم يستطيعوا عدم الاعتراف له بعبقرية لغته وجمال صدقه، مؤكدين فى الوقت نفسه أنه كان صعبا للغاية.

لن أستمر فى ذكر ما هو معروف عن ديستويفيسكى، وما كُتِبَ وقيل آلاف المرات. مما يجعل أنه لا جديد فى تكراره. كما أن اختياره شخصية عامنا الثقافية على مستوى العالم لا تحتاج إلى حيثيات تُذكر. فهو يستحق أكثر من هذا. وطبعاً لن أسأل السؤال المصرى: ولماذا تم اختياره من قِبَل اليونسكو؟ ولن أطرح أسماء أخرى كنت أتصور أنها كانت تستحق أن تشاركه هذا الشرف. فشخصية العام يجب أن تبقى لكاتب واحد. أو فنان واحد. ولا تصلح المشاركة فيها مع أحد.

أيضا لن أسأل السؤال الذى لا أستطيع المرور عليه مرور الكرام. وهو: لماذا أغفلت اليونسكو روائيا أو شاعرا أو كاتبا مسرحيا من وطننا العربى؟ فحضارتنا قدمت للبشرية من الأشعار من النتاج الشعرى الجيد والرصين ما لم تقدمه حضارة أخرى باستثناء الحضارتين الرومانية واليونانية. هذا كله يبقى كلاما جانبيا ويجب التعامل مع اختيار ديستويفيسكى شخصية ثقافية لعامنا هذا باعتباره أمرا واقعا.

ويجب أن نتعامل معه انطلاقا من البحث عن طريقتنا كأبناء للحضارة العربية فى كيفية المشاركة فى هذا الحدث. وهل يمكن لنا أن نقدم خلاله وبمناسبته ما يرقى لمستواه؟ ويكون فيه خصوصيتنا وروحنا باعتبار أن الحضارة العربية فى ذلك الزمان البعيد تواصلت مع التجربة الروسية ثم السوفيتية فى الكتابة والإبداع.عندما زرت الاتحاد السوفيتى السابق فى النصف الثانى من القرن العشرين. بعد أن ترجمت لى المستعربة المرحومة الدكتورة فاليريا كيربتشينكو ثلاث روايات إلى اللغة الروسية ونشرت فى موسكو. لحضور مؤتمر أدبى أقيم فى لينينجراد العاصمة الثقافية للاتحاد السوفيتى وقتها.

وهى المدينة التى أصبح اسمها بعد انتهاء التجربة السوفيتية: بطرسبرج. وهناك زرت متحف ديستويفيسكى. والمتاحف للأدباء والكتاب والمفكرين وأهل الفن توشك أن تكون عادة روسية. يقاومون بها النسيان. ويتذكرون رموز أمجادهم من خلالها. وفى المتحف رأيت ديستويفيسكى الذى لم نعرفه إنسانيا من خلال أوراقه ومسودات رواياته والأماكن التى كان يقرأ ويكتب فيها.

بل كان فى المتحف صفحات كتبها ولم يضمها إلى أعماله الأدبية. امتلأت بالكشط والشطب والتعديل. وبقيت شاهدة على تجليات العملية الإبداعية عند هذا الروائى المهم. ديستويفيسكى رغم إبداعه الأدبى الفذ كان إنسانا منظما. وقد دُهشت من تجاور فوضى الإبداع التى عاشها وهذا التنظيم الدقيق فى حياته اليومية.

لقد وجدت فى مطبخ متحفه الذى كان جزءا من منزله الذى عاش فيه. فواتير ما كان يشتريه من الأسواق لزوجته. محتفظا بها. وعلى الفواتير التى كانت عبارة عن أوراق كبيرة تتناسب مع سخاء القرن التاسع عشر علامات دوّنها بخطه. تفيد أنه اشترى هذا النوع والثمن الذى دفعه فيه. كانت دهشتى بالغة أن هذا الأديب الفنان ــ الذى حاول أن يُمسك بيديه على لحظات الجنون الإنسانى. وحاول التعبير عنها أدبيا ـ كان منظما فى حياته الخاصة بهذا القدر غير العادى. لا أريد أن أطيل كثيرا فى الاستسلام لذكرياتى عن الوقت الذى قضيته فى متحف ديستويفيسكى. فهذا أمرٌ قد يخصنى وحدى. ولكنى أحب أن أكتب عن رواياته التى هزت الدنيا. وجعلته رائدا لكتابة النص الروائى الذى يقوم على علاقة الأديب الروائى بأعماق النفس البشرية. لم يسبقه أحد فى هذا. ولم يحاول أن يلحق به غيره.

فقد وضع يده على أعماق الإنسان فى لحظات مصيرية قاسية. وتحولات درامية مهمة. وكتب عنها كما لم يُكتب من قبله ولا من بعده. ليحتفل العالم بديستويفيسكى طوال هذا العام. فهو يستحق هذا عن جدارة. ولكن يبقى ما يعنينى فى الأمر. فماذا ستفعل مؤسساتنا الثقافية: وزارة الثقافة بهيئاتها المختلفة، والمجلس الأعلى للثقافة، وهيئة الكتاب، والثقافة الجماهيرية، والمركز القومى للترجمة؟ مع أنى أعتبر أن عبقرية ديستويفيسكى تعلو على أى مناسبة. وتوجب الاحتفاء به فى أى وقت يمر علينا.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
قريتنا بين الأصالة والمعاصرة

إن كنت من أهل الريف مثلى سابقا. ستدرك أهمية بل خطورة مشروع الرئيس عبدالفتاح السيسي، باني مصر الحديثة لتطوير القرية المصرية. وأخذها من أحضان العصور الوسطى

أدهم

فس طفولتي شغلتني كثيراً حكاية أدهم الشرقاوي. انتمى لقرية قريبة من قريتي. تتبعان مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة. ومن شدة انشغالي بالموال وحرصي على الاستماع

والد مصري

في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، جرى تحويل روايتي: «الحرب في بر مصر» إلى فيلم: «المواطن مصري» كان المرحوم المخرج صلاح أبوسيف قد اختار عنوان الفيلم

تركيا .. الحرب في كل الجبهات

تركيا.. الحرب في كل الجبهات