منذ حوالي ٤ أسابيع توقفت عن كتابة مقالي؛ حيث كنت مشغولًا برعاية والدي ومتابعة حالته الصحية، بعد أن أجرينا له جراحة "تغيير مفصل" على يد صديقي جراح العظام الكبير د.رامز حليم..
ولأنها كانت تجربة إنسانية لم أعشها من قبل، فإنني قررت أن أتناول في أول مقال أكتبه جانبًا من تلك التجربة.
قد يبدو ما أكتبه الآن موضوعًا شخصيًا إلا أنه في حقيقة الأمر مسألة إنسانية تخص الجميع؛ وخاصة كل شخص لديه أبناء ويحب أن يكون عزيزًا ومكرمًا من أبنائه في "شيخوخته" التي هي آتية لا محالة.
المهم أنني وبعد أن خرج الوالد من المستشفى ليستكمل علاجه في بيتي قبل أن يتوجه إلى سوهاج، استيقظت ذات ليلة قبل أذان الفجر، وكانت إحدى اليالي التي شهدت طقسًا شديد البرودة، فذهبت إلى حيث ينام الوالد لأطمئن إن كان يحتاج إلى المزيد من الغطاء ليقيه من هذه البرودة الشديدة، وبالفعل وجدته في حاجة إلى تدفئة فقد كان يشعر بالبرد، وجلست إلى جواره ووضعت عليه "بطانية" ثانية، وبعد أن بدأ الدفء يتسرب إلى جسده المنهك من المرض، فوجئت به والدموع تنزل من عينيه وهو في شدة التأثر؛ خاصة حينما شاهدني على هذا النحو من شدة الخوف عليه!!
وما إن سألته عن سبب هذه الدموع حتى فوجئت به يقول لي جملة لن أنساها في حياتي؛ حيث قال بالحرف الواحد: "أنت وإخواتك ما تعبتونيش في تربيتكم.. وأنا دلوقت إللي بتعبكم!!" مسحت دموعه و"طبطبت" على كفته ولم أرد عليه؛ لأنني في هذه اللحظة سرحت بعيدًا، ودون أن أشعر فوجئت بأن الزمن قد عاد بي إلى الوراء حوالي ٤٦ عامًا، وبالتحديد حينما كان عمري في حدود عشر سنوات، وقتها كنت مع والدي في سوهاج ورجعنا إلى قريتنا بعد منتصف الليل، وفي ذاك الزمن كانت القرية كلها تنام بعد العشاء، أي أننا رجعنا في وقت متأخر جدًا، دخلنا البيت الكبير وقبل أن نصعد إلى الطابق العلوي قال لي أبي: "تعال لنطمئن على جدك"، وبالفعل ما إن دخلنا عليه غرفته حتى فوجئنا بأنه يرتعد من شدة البرد! فقام والدي بوضع "لحاف قطن" ثانٍ عليه، لحظتها وجدت جدي - الذي كان الجميع يخشونه من قوة شخصيته - الدموع تنزل من عينيه وهو يقول لوالدي: "إنت وإخواتك ما تعبتونيش في تربيتكم.. أنا دلوقت إللي بتعبكم".
وبينما كنت أعيش في تلك اللحظات القادمة من أيام الطفولة والزمن الجميل، أفقت على صوت الوالد وهو يقول: "سرحان في إيه؟" ابتسمت وقلت له: "سرحت فيما فعلته أنت في البيت الكبير منذ ٤٥ سنة".. فهمت من نظراته أن الرسالة وصلت، وقلت له: فعلًا "كله سلف ودين".
في هذه الليلة لم أذق طعم النوم ليس من "وخز الضمير" - كما كان يحدث لبطلة فيلم "لا أنام" - ولكن من كثرة التفكير في رغبة انتابتني لفعل أشياء كثيرة أحببت أن أعيش تفاصيلها فيما بعد؛ وبالتحديد في "شيخوختى" طالما كان في العمر بقية.
[email protected]