Close ad

متى نقولها بفخر «صُنع فى مصر»؟

19-12-2020 | 11:02
الأهرام اليومي نقلاً عن

حفلت صفحات الأهرام منذ فترة بمقالات مهمة عن التصنيع فى مصر فضلا عن كتابات وأطروحات تحتشد بها المكتبة المصرية. فى الموضوع جوانب اقتصادية وسياسية وتكنولوجية شتى لكنى أتناوله هنا من منظور ثقافي/اجتماعي. فحين نطالع التقرير السنوى للبنك المركزى 2018/2019 وغيره من التقارير المعنية بالصادرات والواردات نكتشف أننا استوردنا ما قيمته 66.5 مليار دولار بينما لم نصدّر من صنع أيدينا وسواعدنا سوى ما قيمته 17 مليار دولار فقط بخلاف 11.6 مليار دولار لصادرات بترولية تعتبر فى الواقع هبة من الطبيعة لا نتاجاً لجهدنا.

ثم يحار المرء حين يكتشف أن بيانات السلع المستوردة من الخارج تتضمن ما قيمته 10 مليارات جنيه للملابس والمنسوجات لبلد مازالت بعض المحال الأوربية تكتب فى واجهة عرضها بزهو أن ملابسها المعروضة من قطن مصري، واستوردنا أيضاً ما قيمته 63 مليار جنيه لمواسير وأنابيب وأدوات مطبخ ومائدة، فهل نعجز عن إنتاج مثل هذه المواد غير المعقّدة تكنولوجياً بينما لا نكف منذ عقود عن اجترار الحديث عن نقل وتوطين التكنولوجيا. واستوردنا ما قيمته 5 مليارات جنيه للأثاث ولدينا مدينة مثل دمياط كان قد تدهوّر حالها حتى بدأت مشاريع تحديثها تظهر أخيرا بعد طول نسيان. وهل يصعب علينا أن ننتج أحذية وأغطية رأس لنوفّر بها 1.3 مليار جنيه لاستيرادها؟ أو استيراد أقلام بسيطة للكتابة وأعواد قطن لتنظيف الأذن بملايين الجنيهات؟! وغيره كثير ومستفز لبلد فقير.

لا تمنع هذه البيانات الغرائبية فى فاتورة وارداتنا أن هناك جهودا قد بُذلت فى السنوات الأخيرة لفرملة هذه الفاتورة وانخفاضها بعدة مليارات دولار، وأن حصيلة صادراتنا السلعية قد زادت بنسبة 8%، وهناك نجاحات تحققت فى صناعة منتجات مصرية متميّزة يتم تصديرها حالياً إلى الخارج. والمؤكد أن ما أُنجز على صعيد البنية الأساسية والطاقة وشبكة الطرق والجسور سينعكس إيجاباً على المدى البعيد على حركة التصنيع والتجارة. لكن مازال مطلوباً أن نتساءل بحيرة وغيرة فى بلد المائة مليون نسمة التى لا يصدّر من إنتاج عقوله وسواعده سوى واحد على تسعة مما يصدره بلد مثل ماليزيا ذى الـ 31 مليون نسمة «27 مليار دولار صادرات مصر مقابل 246 مليارا صادرات ماليزيا». بخلاف الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية هناك تفسيرات اجتماعية وثقافية جديرة بالنقاش.

وابتداء فإن جزءاً من وارداتنا الصناعية والتكنولوجية يظل خارج النقاش لأن احتياجنا ضرورى لمثل هذه الواردات التى لا نملك بديلاً لها مثل الآلات والمعدات والأدوية ومستلزمات الانتاج والأجهزة عالية التقنية ومواد أساسية أخري، لكن التساؤل كله ينصب على تلك البنود فى فاتورة وارداتنا التى يمكن الاعتماد فيها على أنفسنا بقدر من العمل والإتقان. فهل نعجز عن صناعة الأدوات المكتبية البسيطة وأعواد تنظيف الأذن وشاش القطن والأجهزة الكهربائية المنزلية والملابس والأثاث والأحذية، وهى سلع لا تتطلب تكنولوجيا فائقة تتجاوز قدراتنا؟

من هنا يبدو النقاش واجبا حول مسألتين أولاهما تتعلق بثقافة الإقبال على المستورد، والثانية تتصل بأسباب التوسع فى الاستيراد فيما يوجد له بديل فى مصر. المسألة الأولى ذات تفسير اجتماعى ثقافى بامتياز، هناك شريحة اجتماعية لديها عقدة الإقبال على السلعة المستوردة والتباهى بها ولو كان لها بديل مصرى بالجودة، نفسها لكن هناك شريحة أوسع أخرى يتحدّد سلوكها بأزمة الثقة فى السلعة المحلية لأن معظم المنتجين المصريين يفتقدون ثقافة ومتطلبات الإتقان ويتسمون بالكسل لاقتناعهم بأن فى مصر سوقاً استهلاكية واسعة ترضى عن قلة حيلة بأدنى المواصفات.

يحدث أن نجد أحياناً منتجات مصرية لا بأس من جودتها خصوصا فى صناعة الملابس والمنسوجات ثم لا نلبث أن نكتشف فيها عيوباً صغيرة كان يمكن تداركها بقليل من الاتقان. والملاحظ أن الأشقاء السوريين الذين دخلوا أخيرا فى مجال صناعة وتجارة الملبوسات والمنسوجات فى مصر قد ارتقوا بهذه الصناعة ومستوى جودتها، فلعلنا نستفيد منهم ونحاكيهم. نسمع عن صناعة ناجحة ومتميزة فى مصر لكنها مخصّصة لأسواق خارجية، هنا يطل سؤال محيّر ومزعج هل صحيح أن بعض الصنّاع فى مصر يفرقون فيما ينتجونه بين السلع الموجهة للسوق المحلى وتلك المخصّصة للتصدير بحيث يكون للثانية معايير جودة أعلى من الأولي؟ إذا صحّ هذا فإننا نسيء لأنفسنا وإلى معايير عملنا، والمضحك أننا حين نتجوّل فى الأسواق نجد السلعة الواحدة أحياناً بسعرين للمحلى والتصدير ويقدّم البائعون السلعة المزعوم أنها للتصدير بسعر أعلى فى تباه غريب لأنهم يدركون «عقدة» الأجنبى فى نفوس بعض المستهلكين. والحقيقة أن المسئولية مشتركة لأن الناس لن تثق بمنتجاتها الوطنية إلا حينما ننتج ونصنع بمعايير البلدان المتقدمة.

لعلّنا بحاجة لمبادرة ما لتشجيع الإقبال على الصناعة المصرية، ولنبدأ مثلاً بصناعة الملابس والمنسوجات، وربما يكون لنجوم المجتمع فى الإعلام والفن والرياضة الذين يتأثر بهم الناس دور كبير لو أنهم روّجوا «بالقول والفعل» لصناعة الملابس المصرية. فلنرتدى ملابس من صنع أيد مصرية ولنعلن هذا ونزهو به لربما أسهم هذا فى تحفيز وازدهار صناعة الملابس الوطنية ليكون بوسعنا لاحقاً غزو أسواق الآخرين مثلما فعلت دول لسنا أقل منها بحال من الأحوال.

المسألة الثانية تتعلق بأسباب التوسع فى استيراد ما يوجد لدينا منه بديل مصري، فاكتفاؤنا الذاتى فى العديد من السلع الغذائية وغير الغذائية أمر ممكن وفقاً لما يؤكده الخبراء والمتخصصون، لكن يبدو أن قوى وتوكيلات الاستيراد تهيمن بدرجة كبيرة على السوق المحلية، ومن الطبيعى أن تتعارض مصالحها مع وجود منتجات مصرية تشبع السوق. لا شك أننى وغيرى نتذكر فى طفولتنا كيف كانت أكثرية المصريين ترتدى بدلة صيفية بسيطة من قماش الكتّان، جاكت أشبه بالقميص وبنطلون من اللون، نفسه، ولم تكن توجد محلات للسوبر ماركت تعرض ما لا حصر له من الأجبان المستورّدة التى يصل ثمن الكيلو جرام الواحد منها إلى نصف الحد الأدنى لمرتب شريحة واسعة من المصريين.

صحيحٌ أننا جزء من عالم تسوده اليوم حرية التجارة ولا مكان فيه للانغلاق وأننا مرتبطون باتفاقيات تجارية دولية لكن ما أقصده هو أن نحقّق التوازن المطلوب وأن نفكر ونتصرف بذكاء فى مثل هذه الأمور حتى لا تكون المغانم الخاصة للبعض أكبر وأهم من مصلحة البلاد والعباد. أسارع فأقول إننى لا أدعو مطلقاً للعودة إلى الماضي، ولا أمارس أى إسقاطات اشتراكية فنحن أبناء عصرنا بضروراته ومتغيراته.

أدعو فقط لأن نأخذ الدروس والعبر مما تفعله البلدان الأخرى التى تضع مصلحة إنتاجها الوطنى قبل أى اعتبار آخر، ولنتأمل المنافسة المحتدمة على الأسواق بين بريطانيا والاتحاد الأوربى بعد البريكست أو ما يحدث بين أمريكا والصين. فى نهاية المطاف ثمة مصلحة عليا للوطن يجب أن تكون ناظمة وموجهة لقوى السوق فقد أسقطت جائحة كورونا تابوهات اقتصادية كثيرة ونحن لا ندري.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
العلوم الاجتماعية .. أزمة في الدور أم المكانة؟

إذا تجاوزنا مؤقتا مسألة الجدل حول تقسيمات العلوم ومعيار هذا التقسيم فإن العلوم الاجتماعية مثل القانون والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ والإعلام والفلسفة

الإصلاح التشريعي كضلع في مشروع مصر التنموي

يذكر التاريخ لنابليون بونابرت الفرنسي إنجازين كبيرين، أولهما حركة فتوحاته العسكرية لتأسيس إمبراطورية فرنسية، وهو إنجاز تجاوزه الزمن وربما طواه النسيان،

ماذا يعني القرار الأخير للمحكمة الجنائية الدولية؟

أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية فى 5 فبراير الماضي قرارًا بشمول اختصاص المحكمة للأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل منذ يونيو

«التطبيع».. فلنصحّح المفهوم أولا

«التطبيع».. فلنصحّح المفهوم أولا

ماذا جرى للأخلاق فى ديارنا؟

لأن المجتمعات الحية الواثقة لا تخجل من مصارحة نفسها ومراجعة أحوالها ثمة حاجة هذه الأيام لأن نتوقف ونتساءل عما جرى لأخلاق المصريين. فالذى نشاهده ونسمعه

عن سؤال الأمن والحرية في فرنسا

عن سؤال الأمن والحرية في فرنسا