عاشت مصر مستقلة نحو 70% من تاريخها الألفى المديد، كما حسب الدكتور جمال حمدان فى شخصية مصر وقبله حسين فوزى فى سندباد مصري، وتحققت هذه المأثرة، التى لم يتمكن من تحقيقها بلد آخر، بفضل كفاح جندها وصمود شعبها ووعي قادتها، فكانت مصر - فعلا وليس قولا - مقبرة للغزاة.
ولست من أنصار نظرية المؤامرة، التى يفسر بها البعض ما تعرضت له مصر من غزوات فى تاريخها القديم وأهمها غزو الهكسوس، وما تعرضت له فى تاريخها الوسيط من غزوات رفعت الصليب نفاقا وشنها همج التتار، والأهم الاحتلال الرومانى والعثماني، وما تعرضت له مصر فى تاريخها الحديث من احتلال بريطانى وعدوان اسرائيلي، وما تتعرض له فى حاضرها من تهديد الإرهاب الرافع زيفا وبهتانا راية الإسلام والمدعوم إقليميا وعالميا، وتهديد إيرادها من مياه النيل وثروتها من الغاز الطبيعي.
لكننى لا أنفى وجود المؤامرة، لأن مصر (المكان) بثروتها الزراعية كانت مطمعا للرعاة من الهكسوس والغزاة من الرومان وغيرهم، ولأن مصر (الموقع) كانت مطمعا للاحتلال البريطانى الذى وظف (المكان) أيضا كمزرعة للقطن. بل إننى أسلم بحقيقة أن إضعاف مصر (المكانة)، إضافة الى الأطماع فى مصر المكان والموقع، كان أهم دافع وراء استهداف مصر منذ فجر تاريخها الحديث.
وإنما أؤكد أن القوة الشاملة للدولة الوطنية المصرية قادرة على مواجهة أى مؤامرة. وأكتفى هنا بايجاز ما سجله الدكتور لويس عوض فى كتابه تاريخ الفكر المصرى الحديث (من عصر إسماعيل إلى ثورة 1919، المبحث الأول: الخلفية التاريخية، 1980).
وأسجل، أولا: ما أبرزه مفكرنا الكبير، فى رده على الزعم بأن السيطرة على قناة السويس كانت غاية الاحتلال البريطانى لمصر- يقول: إن قصة قناة السويس صفحة من صفحات التسابق الاستعمارى بين انجلترا وفرنسا للسيطرة على مفترق القارات الثلاث، لكنه كان (بالأساس) جزءا لا يتجزأ من هذه السياسة إضعاف مصر سياسيا وشل إرادتها، بحيث تصبح غير قادرة على الحركة تماما. ويوضح فرضيته بأن أوروبا قد تعلمت- منذ تجربة محمد علي- أن مصر القوية المتقدمة الحرة المستقلة الإرادة أخطر على مصالحها الاستعمارية من تركيا مركز الإمبراطورية العثمانية، وأن مشكلة الاستعمار الأوروبى لم تكن فى يوم من الأيام وجود قناة السويس أو عدم وجودها.
وهكذا، فإن بونابرت حين غزا مصر فى 1798 لم تكن فيها قناة السويس، والإنجليز كانوا يعدون أنفسهم لغزو مصر حتى قبل الاحتلال البريطانى فى 1882، لأن مصر كلها- وليس مجرد قناة السويس- كانت معبر انجلترا وأوروبا إلى الهند والشرقين الأوسط والأقصي. والذى دفع إلى احتلال مصر كان ظهور مصر كقوة برية وبحرية فى شرق البحر الأبيض المتوسط تستطيع أن تسيطر على منطقة الشرق الأوسط وتؤمنها ضد الاستعمار الأجنبي.
وثانيا: أن حملة نابليون فى مصر كانت تجربة مريرة بالنسبة لإنجلترا، فلم يغمض لها جفن حتى أخرجت فرنسا من مصر، وأن تجربة محمد على فى مصر كانت تجربة ثانية مريرة بالنسبة لإنجلترا خاصة ولأوروبا عامة، فلم يغمض لهما جفن حتى حطماه وحطما معه مصر الناهضة المستقلة، وكانت تجربة إسماعيل فى مصر تجربة ثالثة مريرة بالنسبة لإنجلترا خاصة ولأوروبا عامة، فلم يغمض لهما جفن حتى حطماه وحطما معه مصر الناهضة المستقلة. وكانت تجربة أحمد عرآبى وثورة 1882 تجربة مريرة رابعة لإنجلترا خاصة ولأوروبا عامة، فلم يغمض لهما جفن حتى حطماه وحطما معه دعوته لأن تكون مصر للمصريين وديمقراطيته الوليدة، وكانت تجربة جمال عبد الناصر وثورة 1952 تجربة مريرة سادسة بالنسبة لأوروبا وأمريكا، فلم يغمض لهما جفن حتى حطماه وحطما معه مصر الناهضة المستقلة.
وثالثا: أن مصرع مصر فى كل مرة كان لا يأتى من الخارج فقط، وإنما كان أيضا يأتى من خطيئة عظمى يقترفها كل جالس على عرش فرعون فيقترفها معه شعب مصر، أو يقترفها شعب مصر فيقترفها معه كل جالس على عرش فرعون. وهذه الخطيئة يمكن أن نسميها (عقدة الفراعنة)؛ أى طلب العظمة قبل اكتمال مقومات العظمة. وحيث توجد هذه الفجوة بين الحلم والحقيقة يعشق المرء السلطان أكثر من إمكاناته الحضارية، كما حدث لمحمد علي، ويعشق المرء الحضارة أكثر من إمكاناته المادية كما حدث لإسماعيل، ويعشق المرء الحرية أكثر من امتلاكه مقوماتها كما حدث لعرابي، ويعشق المرء الديمقراطية أكثر من إدراكه لمسئولياتها كما حدث لسعد زغلول وبنيه، ويعشق المرء العزة والكرامة والقوة أكثر من إدراكه أن البطش لا يصنع القوة وإن الخوف لا يصنع الرجال، وأن الوطن القوى لا يبنيه المواطنون الضعفاء كما حدث لجمال عبد الناصر. باختصار، فانه منذ أن بدأ تاريخ مصر الحديث كلما ظهرت فى مصر قاعدة قوية ناهضة مستقلة الإرادة؛ تجمعت القوى الأوروبية أو تصدت إحداها لتحطيم هذه القوة ووأد هذه النهضة وسحق هذه الإرادة، وكان آخر هذا الاستهداف عدوان يونيو 1967.
ورابعا: أننا, كما يخلص مفكرنا الرائد, لن نستطيع أن نكتب حقا تاريخنا القومى ما لم نتعلم ألا نلقى دائما بأخطائنا وخطايانا على الغير، وأن استهداف مصر لم ينجح إلا بسبب أخطاء وخطايا حكامها وعوامل الضعف الكامنة فى نظمها المتعاقبة. وأضيف أن مصر منذ ثورة 25 يناير، التى اختطفتها جماعة الإخوان الإرهابية العميلة، خاصة منذ ثورة 30 يونيو/ 3 يوليو، التى أنقذت بوحدة شعبها وجيشها وجود مصر- تتعرض مصر لتهديدات جسام؛ أهمها: الإرهاب الرافع زيفا وبهتانا راية الإسلام، وتهديد حقوق مصر فى مياه النيل جراء أطماع إثيوبيا الساعية للهيمنة على أهم منابع النيل، وتهديد ثروة مصر من الغاز الطبيعى ودعم قوى الإرهاب تحقيقا لأطماع تركيا وأوهام قطر وأهداف من وراءهما. لكن هذا الاستهداف لن ينجح؛ بإيجاز لأن استجابة مصر قيادة وجيشا وشعبا لهذا التحدى تعكس من حيث الأساس تعلما إيجابيا من دروس تاريخ مصر الحديث. وتستحق فرضيتى هذه تفصيلا فى مقال لاحق إن شاء الله.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام