تغني كثير من الشعراء في سحر بيروت، فصورها أمير الشعراء أحمد شوقي كأنثي فاتنة وكتب فيها ياجارة الوادي، وتغزل فيها محمود درويش كمدينته الجميلة التي تركها في تيهه الثاني بعد مغادرته فلسطين حيث مولده فكانت فجيعته أكثر من البكاء على وطنه، إلى أن خاطبها نزار قباني باعتبارها ست الدنيا رغم أنه في فترة أخري تغزل فيها كحبيبته قبل أن يتخذها الآخرون كمحظية.. إنها بيروت التي حرقها أهلها، أيا كانوا، شيعة، سنة، موارنة، روم أرثوذكس، مسيحيين، دروز، فكلهم شاركوا في تفجيرها، ولكنها ستبقي بيروت، جارة الوادي، الفتاة، الحبيبة لكل العرب.
ويبدو أن قباني أدرك الغيب مبكرا فكتب يعتذر لها : سامحينا.. إن تركناكِ تموتينَ وحيدة.. وتسلّلنا إلى خارجِ الغرفةِ نبكي كجنودٍ هاربينْ\سامحينا.. إن رأينا دمكِ الورديَّ ينسابُ كأنهارِ العقيقْ.. وتفرّجنا على فعلِ الزِنا.. وبقينا ساكتينْ.
كم يبدو وصف نزار شديدا على النفس وهو يخاطب حبيبته بيروت: آهِ .. كم كُنّا قبيحينَ، وكُنّا جُبناءْ.. عندما بعناكِ يا بيروتُ في سوقِ الإماءْ.. وحجزنا الشققَ الفخمةَ في (الإليزيه) و(مايفير)... وغسلنا الحزنَ بالخمرةِ، والجنسِ، وقاعاتِ القِمارْ.. وتذكّرنا - على مائدةِ الروليتِ، أخبارَ الديارْ.
لا يزال نزار قباني يعتذر لبيروت صاحبة القلب الذهب وهو يسألها عن حالها: طمنيني عنكِ .. يا صاحبةَ الوجهِ الحزينْ..كيفَ حالُ البحرِ؟.. هل هم قتلوهُ برصاصِ القنصِ مثلَ الآخرينْ؟. إلى هذا الحد أدرك نزار أن بحر بيروت سينفجر ويخلف مئات الضحايا وآلاف الجرحي والمشردين.
ولأن نزار امتلك أدوات الحب والعشق والهوي، لم ينس معشوقته وهي ملتقي العشاق والأحباء حيثما كانت في سابق الزمن، فيعود لتساؤلاته: كيفَ حالُ الحبِّ ؟.. هل أصبحَ أيضاً لاجئاً.. بين ألوفِ اللاجئينْ ؟.. كيفَ حالُ الشعرِ ؟.. هل بعدكِ - يا بيروتُ - من شعرٍ يُغنّى ؟.. ذبَحَتنا هذهِ الحربُ التي من غيرِ معنى.. أفرغتْنا من معانينا تماماً .. بعثرتْنا في أقاصي الأرضْ.. منبوذينَ.. مسحوقينَ.. مَرضى.. تعبينْ.. جعلتْ منّا.. يهوداً تائهينْ .
ويكاد نزار يلمس وجه الحقيقة هذهِ المرة حيث لم يغدر ببيروت جيش إسرائيل: لكنّا انتحرنا..، نعم انتحرنا بأيادينا، فلن تصفح بيروت عن جلاديها وملوكِ السّيركِ وغش اللاعبين والدكاكينِ التي تملأُ أرجاءَ المدينهْ.. وتبيعُ الناسَ حقداً وضغينهْ.
لن تموت بيروت مهما فعل أهلها فيها وستنهض حية من بين الرماد.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام