لم يكن مقال تراجع الصحافة للدكتور مصطفى الفقى فى «الأهرام» إلا حجرا جديدا فى ضريح الصحافة الورقية، وبالقطع لن يكون الأخير، وربما كان أرحم من الذين نصبوا لها سرادق عزاء، وقالوا: سعيكم مشكور.
قطعا الصحافة المصرية فى أزمة طاحنة بكل أشكالها وأنواعها، أزمة حياة أو موت، وبالفعل هى ممددة على أجهزة التنفس الصناعى فى غرفة العناية المركزة، من سنوات طويلة.
ودائما يستفزنى سؤال فى غاية البساطة: هل توصيف الحالة المرضية الحرجة للصحافة هو توصيف صحيح يمكن أن يصل بنا إلى روشتة علاج تعيدها إلى الحياة الصاخبة؟
أظن، وبعض الظن حلال، أن التوصيف فيه خلط شديد بين أسباب المرض وأعراضه، وهذا واضح من الفصل الحاسم بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، كما لو أنهما كائنان مختلفان كل الاختلاف، وأن نمو أحدهما وتطوره هو بالضرورة على حساب الكائن الآخر وحياته، مع أننى اعتقد أنهما كيان واحد له رأسان، فالورق أو الفضاء الإلكترونى هو وسيلة إنتاج وتوزيع لا أكثر ولا أقل، وإذا درسنا تجربة جريدة نيويورك تايمز فى السنوات العشر الأخيرة، فسنجد أن نسختها الرقمية مجرد أسلوب توزيع مختلف، وليس منافسا للنسخة الورقية، صحيح أن التوزيع الرقمى ضعف التوزيع الورقى تقريبا، لكنه فى النهاية جزء من مجمل التوزيع العام الذى تجاوز ثلاثة ملايين نسخة، وهو رقم لم يرتفع إليه التوزيع الورقى منفردا ولا الإلكترونى منفردا.
التوصيف لأزمة الصحافة المصرية بأنها سقطت ضحية فى صراع شرس بين الورقى منها والإلكترونى هو توصيف خاطئ، على أساس أن الصراع صب فى مصلحة الإلكترونى بحكم التطور التكنولوجى الهائل، الذى نقل جزءا كبيرا من أنشطة الإنسان عموما من العالم الواقعى إلى العالم الافتراضي.
لكن الأزمة ليست فى الصراع وإنما فى استيعاب التطور. بالقطع استحدثت أدوات العالم الافتراضى الجديد مفردات وعناصر جديدة حلت بسرعة محل مفردات وعناصر الواقع حتى قضت عليها نهائيا، ومنها مفاهيم إنتاج الجريدة سواء كانت يومية أو أسبوعية، وهو ما لم تستجب له الصحافة المصرية، المدهش أن ملاك الصحافة وممثليهم راحوا يتحدثون عن العصر الجديد والأدوات الجديدة ببلاغة وبراعة فى التعبيرات، دون أن يتحركوا خطوة واحدة إلى الأمام للتحرر من المفاهيم القديمة الحاكمة لعمل الصحافة اليومي، أى ظلوا يعملون بالمفاهيم التى انقرضت فعليا لكن باستخدام الأدوات الحديثة، سواء فى إدارة الجريدة يوميا أو تنظيم عملية إنتاج المادة المنشورة: خبرا وتقريرا وتحقيقا وحوارا ومقالا وصورة فوتغرافية ورسما كاريكاتوريا.
وطبيعى جدا أن يصاحب تغيير البيئة وأدواتها الحديثة تغيير فى رغبات القارئ المستهلك ونوعيته، لأن التطور التكنولوجى يوفر الزمن للإنسان منتجا ومستهلكا، فما كان ينتجه فى ساعات طويلة، ينجزه فى دقائق أو بضع ساعات، وما كان ينتظره المستهلك ساعات، بات يصل إليه فى دقائق وأحيانا فى ثوان، أى تبدلت تفاصيل العلاقة بين القارئ الجديد والجريدة فى الواقع، دون أن تظهر على صفحات الجرائد.
باختصار صارت أغلب المؤسسات الصحفية تنتج سلعا لا تتوافر فيها شروط المستهلك الجديد، فانصرف عنها تدريجيا، فالصحيفة أى صحفية، مهما نُعلى من قيمة دورها السياسى أو الثقافى أو الاجتماعى أو الرياضي، فهى فى النهاية سلعة تخضع لما يحكم مصير أى سلعة فى السوق، إذا تقاطر عليها الطلب نمت وترعرعت وتوسعت وحازت مساحة أكبر، إذا ابتعد عنها الطلب زبلت وتراجعت وانكمشت مساحات وجودها، سواء كانت ورقية أو إلكترونية.
وبالرغم من هذا لا يمكن اختزال مأزق الصحافة الورقية فى محتواها والكوادر البشرية العاملة فيها، نعم هما أهم العناصر فى منظومة متكاملة ضربتها الأزمة بقوة، لكن يستحيل أن نستبعد عنصرين: أساليب التوزيع، وتسويق الإعلانات، وما جرى فى إنتاج المحتوى من سيطرة المفاهيم القديمة، جرى على التوزيع والإعلان اللذين لم يستوعبا خطورة النقلة الافتراضية، ولم يعثرا على حلول ناجعة فى التعامل معها.
وفى مقارنة بين توزيع الصحف فى الهند ومصر ، وبين الهند ومصر تشابه فى جوانب كثيرة من الحياة، سنجد جريدة يومية لكل خمسة هنود، مقابل جريدة يومية لكل 72 مصريا «إحصاءات 2018».
ولولا إعلانات الأدوية الحسية وعلاجات الصلع وعناوين الجرائم الجنسية المثيرة وخناقات الردح الرياضى وفضائح الفن، لكان مصير كثير من المواقع الصحفية الإلكترونية هو نفس مصير النسخ الورقية..أى أن وجود هذه البوابات الرقمية وانتشارها مرهون بعناصر لا علاقة لها بصناعة الصحافة المحترمة، وهو ما يجسد الأزمة ولا يعد حلا لها.
ونعود إلى السؤال الساذج: ما أهمية الصحافة؟، ولماذا كل هذا الحرص على إنقاذها من عثرتها الحالية؟
الصحافة هى مرآة المجتمع، ترصد له كل ملامحه وتفاصيل أيامه وما يعتريهما من تغيير مهما صغر، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ورياضيا ..الخ، هى ديوان حياته، ما هى العيوب والمثالب التى تنخر فيه؟، ما هى المخاطر التى تحيط به؟، ما هى الدروب التى يمكن أن يمشى فيها؟، يعنى هى أشبه بالفنار الذى يرشد سفينة المجتمع للمسارات البحرية الآمنة فى الليل.
قد يقول قائل: هذه هى مهمة أجهزة المعلومات مع صانع القرار؟
الصحافة جهاز معلومات أشمل وأوسع فى زوايا الرؤية، جهاز يتعامل مع المجتمع مباشرة، مع كل ناسه، يمدهم بمعلومات تساهم فى بناء الشخصية العامة والمعرفة العامة والوعى العام، الذى نسميه اتجاهات الرأى العام..وأى مجتمع بلا رأى عام هو رمال متحركة لا يمكن زراعتها. صحيح أن المواقع الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعى تنشر هذه المعلومات لحظة بلحظة، فلماذا نحتاج إلى الصحافة؟
بسبب فارق الدقة والمصداقية، كالفارق بين العلاج عند طبيب متخصص والعلاج عند حلاق صحة، بين المهندس المعمارى حين يرسم عقارا أو يرسمه مقاول بناء، كالفارق تماما بين سائق محترف وسائق التوك توك.
ولو تتبعنا حجم الأخبار والمعلومات المغلوطة أو المبتسرة المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعى أو المواقع الإلكترونية، لأدركنا سببا من أسباب شيوع العقل الغوغائى الزاحف على حياتنا فى الإعلام الفضائى والحياة نفسها، والعقل الغوغائى خطره لا يقل عن خطر العدو الغازى. للحديث بقية
نقلا عن صحيفة الأهرام