الفنان هانى شنودة يحلو له أن يذكرنى دائما بأغنية زحمة يادنيا زحمة التى لحنها لأحمد عدوية.. ويقول لى ضاحكا إنها كانت بمثابة جرس إنذار سياسى ولكن لم ينتبه إليها أحد.. كيف؟ يستطرد قائلا.. شوف الكلام اللى فيها.. زحمة يادنيا زحمة.. زحمة وتاهوا الحبايب.. زحمة ومعدش رحمة مولد وصاحبه غايب..
ويبدو أنه كان على حق فالكربسة والزحام والزنقة أدت إلى تعقيد حياة الناس وتصعيب المعايش عليهم وأدت أيضا إلى تفشى ظاهرة العشوائيات وانتشار الجريمة وتوفير بيئة حاضنة للتطرف والإرهاب.. من يسافر فى بلاد الدنيا يجد الناس تعيش فى براح وحواليها جنائن وغابات أو صحراوات مفتوحة..
فالتباعد العمرانى والتباعد العقارى ظاهرة صحية على كل الأصعدة نفسيا وإنتاجيا وحضاريا.. ناهيك عن ندرة انتشار العدوى والأوبئة.. منظمة الصحة العالمية لم تجد نصيحة لمواجهة وباء كورونا سوى التباعد، ثم التباعد، ثم الكمامة إذا لم يتوافر التباعد.. أعتقد أن المحنة التى نعيشها هى فى نفس الوقت فرصة للتفكير فى إعادة توزيع الخريطة السكانية فى مصر للأسباب التالية:
أولها.. حماية صحة المصريين وتحصينهم ضد انتشار العدوى والأوبئة .. ثانيا.. الحفاظ على الأرض الزراعية من عمليات التجريف المحمومة وتحويلها إلى كتل أسمنتية.. ثالثا.. تأكيد وجود المصريين على أكبر رقعة من الأرض كضمانة لتأكيد السيطرة وللحيلولة دون ترك فراغ يتسلل منه الغزاة وأعداء الوطن رابعا .. حتى تحقق المعايير اللازمة التالية للتحضر العمرانى من توافر الطاقة والمياه إلى الغذاء وحرية التنقل وإمكانية التوسع والتطور..
نحن نحتاج إلى خريطة سكانية جديدة، فنحو 95 % من سكان البلاد البالغ عددهم 100 مليون نسمة يعيشون على ضفاف النيل وعلى طول قناة السويس.. هذه المناطق هى من بين أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان .. وتحتوى فى المتوسط على نحو 1٫540 شخص لكل كم2 مقارنة بمعدل 96 نسمة لكل كم2 وهو المعدل لمصر ككل.
وتظهر بيانات الجهاز المركزى للإحصاء أن معدلات الكثافة السكانية فى القاهرة تبلغ 50 ألفا و259 نسمة لكل كيلو متر مربع، وتبلغ فى الإسكندرية نحو 3 آلاف و91 نسمة لكل كيلو متر مربع. وفى المقابل تأتى محافظات أخرى تسجل أقل كثافات على مستوى الجمهورية، وكانت محافظة جنوب سيناء حيث بلغت 6.1 نسمة لكل كيلو متر مربع، ومن بينها محافظة الوادى الجديد وبلغت نحو 224 نسمة لكل كيلو متر مربع.. ولو تأملنا عدد حالات عدوى كورونا فى العلمين ومرسى مطروح وسيناء وأسوان لوجدناها تقترب من الصفر.. بينما تتفاقم أرقام الإصابة والعدوى فى القاهرة والجيزة والقليوبية والفيوم والمنوفية والبحيرة والإسكندرية ..
آن الأوان أن نعيد هندسة التباعد العقارى والعمراني، وبصراحة لابد من تغيير عقلية المسئولين عن التخطيط العمرانى والعقارى .. أولئك الذين يبيعون كل سنتيمتر من وسط البلد وكورنيش النيل وعواصم المحافظات بدعوى أنهم يجنون المليارات لخزانة الدولة ويتصورون أنهم يحسنون صنعا.... انظروا إلى عواصم العالم .. واشنطن العاصمة الأمريكية .. لا أبراج فيها ولا تكدس ولا ناطحات سحاب.. باريس فى فرنسا لها قواعد صارمة فى البناء تحافظ فيها على الشخصية المعمارية وعلى توفير رئة جديدة من الحدائق فى كل منطقة تزال المبانى المتهالكة فيها ..
يعنى سيادتك تمشى فى بعض حوارى باريس ثم تفاجأ داخلها بحديقة متوسطة أقيمت مكان مبنى تمت إزالته .. إنهم يفكرون فى العائد القومى والإنسانى على المواطن ولا يفكرون فى زيادة حصيلة الخزانة فقط.. فأين نحن من كل ذلك.. وكيف نستثمر جائحة كورونا لكى نخرج من الشريط العمرانى الضيق إلى البراح ومن علب السردين إلى إستراتيجية جديدة اسمها التباعد العقاري. انتشروا فى أرض مصر الواسعة والشاسعة.
نقلا عن صحيفة الأهرام