Close ad
9-6-2020 | 00:38

يجب أن نعترف أننا لم نعطِ اهتمامًا واجبًا وكافيًا لصرخة الأديب الروائي الكبير/يحيى حقي؛ في روايته التي تُعد بمثابة النبوءة والمعجزة في الحياة الأدبية الثقافية المصرية : "قنديل أم هاشم"؛ عن الطالب الذي ينشأ في حي من أحياء القاهرة القديمة بـ "السيدة زينب" وهو الحي الذي يضم الضريح والمقام لرُفات "سيدة الديوان" كما يُطلق عليها العامة والبسطاء، ويسافر لدراسة الطب في ألمانيا ويحتك ويتشبع بطرق الحياة الحديثة في أجواء الحضارة الأوروبية، ويعود إلى وطنه ليعمل طبيبًا لجراحة "العيون" بعيادته في حواري السيدة زينب، ليكتشف برؤيته وعلمه أن سبب زيادة المرض هو استخدام قطرات من زيت قنديل مسجد "أم هاشم"، ويتم علاج حبيبته أو خطيبته بالأسلوب نفسه الذي يذهب بهم إلى ظلمات دياجير العمى؛ فيقوم بتحطيم القنديل! ليتم اتهامه من الأدعياء والموتورين بأنه يحطم "التابوهات" المقدسة ويعبث بالمعتقدات والأعراف الخاطئة السائدة؛ ويستهزئ بالموروث المهترئ الخائب!

ولكننا ـ للأسف ـ لم نعِ أهداف تلك الرواية التي أنتجتها السينما المصرية في أواخر ستينيات القرن الماضي؛ حتى داهمنا قطار العلم والتكنولوجيا ليدهس في طريقه كل الطرق التي ابتدعها بعض الشيوخ على الشاشات والمنابر؛ وقساوسة الكنائس في عظاتهم؛ وانتشرت تلك الأحجيات والأحاييل و"البدع" انتشار النار في الهشيم على شاشات السينما والتليفزيون؛ وامتلأت بها شرائط الكاسيت في سيارات الأجرة الزاحفة كالديدان الملوثة بين الأقاليم؛ للترويج لعلاج الأمراض بـ "زيت القنديل" و"بول البعير" و"حبِّة البرَكة" و"تراب المدفأة" و"تعليق الأثرعلى بوابة" شيَّال الحمُول "المتولي" و"حجاب جلب الحبيب" و"الرسائل إلى أضرحة الأولياء"؛ وتفرغوا للتفنن في إصدار فتاوى ـ أخجل من استعراض بعضها ـ ما أنزل الله بها من سلطان ولا سندِ لها من سُنَنٍ أو فرائض.... إلخ، كل هذه الخرافات التي ركبت واستفحلت داخل العقل المصري والعربي في فترات التعتيم والإظلام التام ـ المُمنهجة والمقصودة ـ على العلم والعلماء والبحث العلمي، ورصد الميزانيات للصرف على كل هؤلاء الأدعياء الذين اختفوا الآن هربًا من أمام اجتياح أمواج إعصار "تسونامي كورونا" الذي يضرب شواطئ بحار حياتنا؛ ولتخطف "حيتانها" أعز الناس إلى قلوبنا وحياتنا الهادئة المُستكينة والمستكنَّة برغم الفقر والحاجة؛ ولكن المصري استطاع دومًا أن "يُكيِّف" حياته على الصبر والستر والرضا والقناعة، وهذا هو ما يلعب على أحباله دائمًا كل من مرُّوا على كرسي السلطة في وزارتي التعليم والصحة ! ولهذا حديثٌ ذو شجون.. لأنهما أهم ملفات حياتنا المعاصرة إذا ابتغينا الصلاح والفلاح والتقدم ومواكبة أحداث وتقلبات الزمن !

ولست في سبيلي للتهكم أو السخرية من قولي: شكرًا لهذا التسونامي أو القنبلة "كورونا" التي قصفت شظاياها كل أركان المجتمع الإنساني في العالم حتى داهمت مصر، فلقد فتحت أعيننا النائمة ـ أو بالأحرى "المُتناومة" ـ عن الكثير من أوجه القصور المخزي في المنظومة الصحية في أساليب وطرق العلاج بالمستشفيات العامة.. بل الخاصة؛ هذا القصور والتقصيرالناتج ـ في الأساس ـ عن اهتراء المنظومة التعليمية بتنوعاتها ـ الأدبية والعلمية العملية ـ التي تُخِل بمفاهيم الثقافة الجمعية المُفترض فيها أن تكون ذات الفكر الواحد، فلقد تشتتنا بين الأنظمة التعليمية الأمريكية واليابانية والألمانية ومدارسهم وجامعاتهم المُتاحة لكل أصحاب الثروة والنفوذ، وبين المنظومة المصرية الفقيرة المتخبطة والمتأرجحة دون إستراتيجية محددة، لا تخضع أصلا لرأي ورؤية ورغبة وأهواء من يجلس على كراسي هاتين الحقيبتين!

لقد تنبهنا ـ خلال تلك الجائحة القدرية ـ إلى ضرورة تعميم "العلاج المُيسَّر" ولن أقول "المجاني" على كل من يأتي إلى الحياة على أرض مصر، وأن تُكتب مع شهادة ميلاده "شهادة متابعة صحية" تلازمه من المهد إلى اللحد، حتى لا يُترك الفقير ليموت على أبواب المستشفيات العامة للإهمال، أو ليموت على باب المستشفيات الخاصة لأنه لا يملك ثمن المبيت والعلاج ـ ولو ـ لليلة واحدة بما يوازي خمسين ألف جنيه.. جنيه ينطح جنيه! وحتى إذا كان يملُك هذا المال وتربع فوق سرير ليحظي بعلاجٍ ناجع، فإنه لن ينجو من الحقد والحسد واتهامه واتهام الدولة بالتقصير والتحالف مع "عزرائيل" للقضاء على حياته؛ والعمل على زيادة احتقان "غُدة الحقد الطبقي" غير مأمون العواقب!

لذلك، فإنني أنادي باللجوء ـ كما لجأت الثورة المصرية ـ إلى التأميم للمصانع والشركات في ستينيات القرن الماضي لتحقيق السيادة والكرامة؛ حين تحكمت الرأسمالية في مفاصل الدولة وتوجهاتها والتسلط على الحكم؛ وأطالب كذلك باستخدام الدولة لحق أصيل من حقوقها وهو المبادرة بإعداد مشروع "تأميم الطب" وتمصير الحقل الطبي بالكامل من مستشفيات وعيادات؛ حفاظًا على كرامة المواطن قبل صحته؛ فالمواطن بلا كرامة.. كأعجاز نخلٍ خاوية!

لقد تنبه الدخلاء على حكم الوطن المصري في العصر المملوكي إلى هذه المعادلة؛ فأنشأ الحاكم "السلطان سيف الدين قلاوون" مجموعته التي تتكون من مسجد ومدرسة وبيمارستان لعلاج المرضى بالمجان؛ ومازالت مستشفاه على قيد الوجود بشارع المعز لدين الله الفاطمي!

فهل نحن نطالب بالمعجزات ـ الآن ـ في ظل قيادتنا الوطنية المخلصة؛ التي تسعى بكل الجهود في مجالات الحياة كافة لإسعاد المواطن المصري والحفاظ على كرامته أمام غوائل المرض والجوائح القدرية التي تحاصرنا؛ ويبدو أن الأمد سيطول بنا إلى أن يقر الله أمرًا كان مفعولاً؛ وتنزاح تلك الغيوم التي ظللت سماء الوطن.. بل العالم شرقه وغربه.

في انتظار شمس الأمل التي تشرق في سمائنا.. لتعود عجلة الحياة الجميلة الطبيعية إلى الدوران من جديد. وندعو الله أن يقينا ويقيكم من كل الشرور والجوائح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: