Close ad

دونالد ترامب والهروب المستحيل

21-4-2020 | 17:58

يبدو أن توصيات ما اعتبرناه «روشتة هنرى كيسنجر» للإنقاذ من جائحة كورونا التى تجتاح العالم الآن بضراوة، رغم قصورها البنيوى، ستذهب أدراج الرياح، لسبب جوهرى هو أن «الطبقة السياسية الحاكمة» فى كثير من دول العالم الغربى، وعلى الأخص فى الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن مصالحها تتناقض مع تلك التوصيات وبالتحديد: تعزيز قدرة العالم على مواجهة الأمراض المعدية من خلال تطوير البحث العلمى، والسعى الحثيث لمواجهة الأضرار التى لحقت بالاقتصاد العالمى جراء تفشى الوباء، وحماية مبادئ النظام الليبرالى.

فالرئيس الأمريكى دونالد ترامب بدلاً من أن يتولى قيادة مشروع عالمى لمواجهة الخطر يأخذ فى اعتباره الخصوصية العالمية للانتشار السريع والمخيف لهذا الوباء فى كافة أرجاء الكرة الأرضية دون أى تمييز، كما يأخذ فى اعتباره الدروس شديدة الأهمية التى جرى استخلاصها من تجارب الدول فى مواجهة هذا الوباء، ويستمع إلى «نداء العقل» كما عبر عنه الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش مطالباً قادة دول العالم بالتغلب على خلافاتهم المتواصلة والتوحد معاً لمواجهة «فيروس كورونا» (كوفيد ـ 19) الذى يرى فى انتشاره تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وإذا به يتجاهل هذا كله، ويفتح النار على منظمة الصحة العالمية (منظمة متخصصة تابعة للأمم المتحدة) ويحملها مسئولية الانتشار المخيف للوباء، ويقرر تجميد التمويل الأمريكى لهذه المنظمة.

من أبرز من تصدوا للرئيس الأمريكى كان الدكتور انطونى فاوتشى كبير خبراء مكافحة الأمراض المُعدية ومستشار ترامب، الذى ربما يفقد وظيفته هذه بسبب انتقاده لموقف الرئيس وتحميله شخصياً مسئولية تردي الجهود الأمريكية فى مواجهة الأزمة الفيروسية. ففى حديثه مع محطة «سى.إن.إن» الأمريكية (11/4/2020) قال: «لو كنّا سارعنا فى إغلاق المنشآت العامة لأنقذنا الكثير من الأرواح».

وكانت هذه الفضائية قد اتهمت ترامب بـ «الفشل» فى إدارة »جائحة كورونا«، وقبلها كانت صحيفة »واشنطن بوست« قد كشفت (4/4/2020) أن إدارة الرئيس دونالد ترامب قد تلقت أول تقرير استخباراتى حول خطورة «فيروس كورونا« فى 3 يناير 2020، وأن المشاركين فى لقاءات استخباراتية مغلقة حذروا ترامب مراراً من خطورة الفيروس، »لكن 70 يوماً مضت منذ ذلك التاريخ قبل أن يبدأ البيت الأبيض فى التعامل مع كورونا كوباء مميت قادر على قتل عشرات الآلاف» وزادت الصحيفة على ذلك بالقول إن الولايات المتحدة كانت لديها إمكانيات كبيرة لمواجهة الجائحة كالموارد المالية والأبحاث العلمية والتجارب الوفيرة فى مجال مكافحة الأوبئة، لكن إدارة ترامب أضاعت الوقت، وارتكبت أخطاء كثيرة فى التعامل مع الأزمة، وفى مقدمتها تأخرها فى تطوير الفحوصات اللازمة لوضع »خارطة انتشار الفيروس«واتخاذ إجراءات الحجر الصحى.

السؤال المهم بهذا الخصوص هو هل هذا الفشل مجرد نتيجة طبيعية للقصور فى القدرات لدى الإدارة الأمريكية، سواء كان هذا القصور يتعلق بقصور فى إدراك خطورة الأزمة الفيروسية، أو كان يخص قصور القدرات الطبية الوقائية الأمريكية، أو يخصهما معاً، أم أنه قصور يعكس خصوصيات الطبقة الحاكمة الأمريكية ونظام العولمة الرأسمالية الذى ترتكز عليه تلك الطبقة أم أنه يرجع بالأساس إلى الأولويات التى تحكم إدارة دونالد ترامب الآن والتى ترى أن »معركة كسب الانتخابات الرئاسية« التى ستجرى فى شهر نوفمبر المقبل هى الأولوية القصوى التى يجب أن تحكم تعامل إدارة ترامب مع جائحة كورونا؟

السؤال مهم لأن قرار ترامب تجميد الحصة الأمريكية فى تمويل منظمة الصحة العالمية وتحميله هذه المنظمة مسئولية الكارثة الراهنة ووجه بانتقادات حادة من جهات عالمية كثيرة وبدفاعات علمية جادة عن أداء المنظمة فى التعامل مع الجائحة، ما يعنى أن موقف ترامب هو «موقف أمريكى محض» لا يعكس ولا يعبر عن الحقيقة بأى درجة من درجات الإنصاف، كما أن هجوم ترامب على منظمة الصحة العالمية وتحميلها مسئولية الانتشار المخيف لفيروس كورونا بقدر ما هو محاولة مستميتة »لإبراء الذمة« أمام الناخب الأمريكى كى لا يقتص هذا الناخب من ترامب انتخابياً بسبب عجزه وقصوره عن مواجهة الوباء، وبقدر ما هو أيضاً محاولة مستميتة أيضاً لإنقاذ الاقتصاد الأمريكى والاستجابة لمطالب نظام العولمة الرأسمالية بالانسحاب فى أسرع وقت من قيود الحجر الصحى المفروضة على معظم القطاعات الاقتصادية الأمريكية، وإعطاء الأولوية لتشغيل الاقتصاد للحيلولة دون خسارة ما يعتقده ترامب من مكاسب ونجاحات اقتصادية استطاع تحقيقها على مدى الأعوام الثلاثة الماضية من رئاسته، وإنقاذ الاقتصاد الأمريكى من خطر الكساد.

الواضح تماماً أن ما يشغل ترامب هو سرعة إعادة انعاش الاقتصاد الأمريكى قبل أن تؤدى ترتيبات «الإغلاق الشامل» فى أنحاء البلاد، إلى إغراقها فى كساد تام، يمكن أن يطيح بطموحات ترامب الانتخابية، لكن الأهم أنه، أى الإغلاق، مرفوض بالمطلق من جانب كبار المسيطرين على الاقتصاد الأمريكى الذين يعطون كل الأولوية للمكاسب والأرباح أكثر مما يعنيهم تساقط الأرواح، لذلك يجد ترامب نفسه أمام مهمة يمكن وصفها بـ «الهروب المستحيل» لأنه يواجه معضلة يمكن أن توصف هى الأخرى بـ «المستحيلة» مفادها السؤال التالى: هل يستطيع ترامب انعاش الاقتصاد دون إنعاش الفيروس؟

والأرجح أن ترامب لن يستطيع اجتياز المستحيل وأن »فيروس كورونا« لن يهدد فقط أحلامه الرئاسية بل ربما يفرض مستقبلاً على الأمريكيين تحميل النظام الحاكم كله مسئولية كل الأرواح التى تساقطت وكل ما عاشه الأمريكيون من «رعب مخيف» طيلة أشهر الأزمة الفيروسية، وربما يكون إسقاط هذا النظام هو الثمن المطلوب والقاعدة التأسيسية لنظام ما بعد كورونا.

إذا كانت هذه هى النتيجة المحتملة، فما هى تلك المعالم فى النظام الأمريكى الراهن التى لن تستطيع الصمود مستقبلاً أمام ضرورات التأسيس لنظام جديد ليس فى أمريكا فحسب؛ بل فى العالم كله، والتى سوف تتداعى أمام الدروس التى سيتم استخلاصها من رحم تلك الأزمة الفيروسية؟ هذا هو السؤال الأهم......

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
مفاوضات اصطياد إيران .. الفرص والمخاطر

يعتبر اليوم الثلاثاء (23 فبراير 2021) يوما فارقا بالنسبة لمسارات حل أو تأجيج الأزمة المتفجرة هذه الأيام حول الاتفاق النووى الذى وقعته «مجموعة دول 5+1»

خيار «الدبلوماسية المبدئية» اختبار لإدارة بايدن

فى أوج التصعيد المتبادل بين إيران من جهة والولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة من جهة أخرى دفعت واشنطن بموقفين متناقضين بخصوص كيفية حل معضلة الأزمة المتفجرة حول الملف النووي الإيراني.

عقبات أمام الوساطة الأوروبية

يبدو أن إيران أدركت وجود عوائق كبيرة وحسابات معقدة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة للعودة إلى الاتفاق النووى الذى انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد