حظيت "الأهرام" على مدار تاريخها بالأساتذة الكبار في مهنة الصحافة، عرفوا طوال فترة عملهم في الجريدة بالمهنية والموضوعية؛ ليصبحوا علامات تاريخية، حتى وإن لم تعرفهم الأجيال الجديدة، منح هؤلاء الأساتذة صفحات جريدتهم كل عمرهم، لم يكن لهم هدف سوى أن تنفرد "الأهرام" بالخبر الصادق، والتحقيق أو التحليل الدقيق المتعمق، الذي ينقل الحدث ويفسره من وجوهه المختلفة، برعوا في ذلك بأدواتهم ووسائلهم الصحفية البسيطة التي كانت متاحة لهم في ذلك الوقت، التي اعتمدت على المعايير المهنية الموضوعية، فاستحقوا أن تخلدهم الأهرام على صفحاتها، ويظلون أعلامًا ومدارس صحفية يجب أن تنهل من معينها الأجيال الجديدة، إذا أرادت أن تنتسب بحق إلى المدرسة الأهرامية في الصحافة.
من هؤلاء صديقي وزميلي الأستاذ "محمد طعيمة" خريج الدفعة الأخيرة من قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة 1974، وأحد الذين اختارهم، الأستاذ "ممدوح طه" رئيس قسم الأخبار في "الأهرام" للعمل بالجريدة فور تخرجهم؛ حيث كان "طعيمة" أقرب هؤلاء الزملاء إلى قلب واهتمام "ممدوح طه" الذي رأى فيه مقدرة كبيرة على المتابعة، والذاكرة اللاقطة المسجلة، والصياغة الإخبارية الجيدة، والعمل الدءوب، فوضعه نصب عينيه.
وكان قبل تعيينه يضع خريطة أو خطة عمل قسم الأخبار يوميًا، ثم عمل بعد ذلك في قسم الحوادث مع الصحفي الراحل "إبراهيم عمر"؛ ليصبح طعيمة بعد ذلك أول نائب لرئيس قسم الحوادث من دفعتنا.
كان "طعيمة" - أطال الله في عمره - طوال فترة الدراسة هادئًا مثابرًا على حضور المحاضرات، يحتفظ بعلاقات جيدة وودية مع كل الزملاء، وحريصًا على الاستفادة من كل الأساتذة الذين علمونا في قسم الصحافة (د.إجلال خليفة، د.سامي عزيز، د.مختار التهامي، د.إبراهيم إمام، د.جيهان رشتي، د.محمود نجيب أبوالليل، د.خليل صابات)، وخلال فترات التدريب الصحفي كان "طعيمة" يختار جريدة "الأهرام"، وهناك أحبوه؛ لأنه كان مجتهدًا نابهًا؛ حيث تميز بالتنظيم، والمتابعة الجيدة للأحداث، والذاكرة الحافظة اللاقطة الحاضرة، التي تسعفه لتذكر ما كنا نعجز عنه جميعًا، فهو يعرف ويتذكر التشكيل الوزاري على مدى السنين، لو سألته عن أي حدث يسرده لك بالتفاصيل.
وقد ساعدته هذه الذاكرة في تغطية جلسات محاكمات "جماعة التكفير والهجرة"، قتلة الدكتور حسين الذهبي، وزير الأوقاف الأسبق في 3 يوليو 1977، وقد شملت هذه المحاكمات شكري مصطفى هو وأربعة وخمسين شخصًا معه بتهمة قتل الذهبي أمام محكمة عسكرية، وأصدرت المحكمة في 30 نوفمبر 1977 حكمها بإعدام شكري وأربعة آخرين.
كان "محمد طعيمة" هو الذي يقوم بتغطية جلسات هذه المحاكمات، التي تميزت تغطية "الأهرام" فيها بالدقة المتناهية، لم تكد الجلسات تنتهي، حتى تكون مكتوبة جاهزة على ديسك الأهرام، بصياغة ممتازة، وعناوين دالة معبرة، كان يكتبها "طعيمة" بأسلوب ظل يشيد به "الأستاذ إبراهيم عمر" و كبار أساتذة الديسك في الأهرام "مكرم محمد أحمد وصلاح منتصر وعبد الوهاب مطاوع"، وكان "طعيمة" لا يكتفي بذلك، بل كان يجهز صفحة الحوادث يوميًا ويرسمها مع سكرتارية التحرير الفنية، ويتابع تنفيذها في المطبعة، وكان الجميع بمن فيهم رئيس التحرير "إبراهيم نافع" يعلم ويقر ويعترف بكفاءة طعيمة ومهنيته، وخلقه القويم، وتعامله الراقي مع الزملاء بقسم الحوادث أو الأقسام الأخرى.
وبعد أن تخطاه صاحب القرار عندما ترك "إبراهيم عمر" رئاسة قسم الحوادث، غضب "محمد طعيمة" لإسناد رئاسة القسم إلى محرر آخر لم يكن من المنتمين إلى القسم، فقدم طلبًا للانتقال إلى "الطبعة الدولية" للأهرام، وحُرم قسم الحوادث، وجريدة "الأهرام" من جهود وتميز "طعيمة" الذي اختار أن يترك معشوقته؛ لأنه رأى في تخطيه عدم تقدير للكفاءات، ومع أنني عارضته في هذه الخطوة، التي رأيتها منفى اختياريًا، إلا أنه واصل العطاء في الطبعة الدولية، وكان يقدم يوميًا قراءة دقيقة للصحافة المصرية، يلخصها ويبسطها ويحللها بمهنية وموضوعية للمصريين في الخارج، وكان يشتري الصحف من جيبه يوميًا، واستمر على هذا الحال، لم يمل أو يكل، ملتزمًا بمواعيده وبتنفيذ كل ما يُسند إليه، مثابرًا محبًا لمهنته، لم يمنعه مرض، أو معاملة لا تليق، كانت تلحق به أحيانًا من بعض الذين كانوا أقل منه مهنية واحترافًا، عن مواصلة دوره وتميزه، وبرغم أن "الديسك المركزي" في الأهرام كان قبلة كل راغب وحلم كل مشتاق للمناصب والترقي؛ سواء كان يستحق أم لا، رفض"طعيمة" أكثر من مرة، وقد كنت شاهدًا على ذلك؛ حيث عرض الأستاذ "عبدالوهاب مطاوع" عليه أن يضمه إلى أعضاء الديسك المركزي للأهرام، كان يرى أن تخطيه عند اختيار منصب رئيس قسم الحوادث، جريمة لا يمكن التكفير عنها، ولا تسقط بالتقادم.
أعلم أن "طعيمة" قد يغضب مني لذكر هذه المعلومات، ولكن هذا حقه، فهو من الذين ظُلموا، والذين تخطتهم القرارات كثيرًا، حتى عندما تخرجت ابنته "سارة" بتقدير امتياز في كلية الإعلام جامعة القاهرة، لم تعين إلا بعد جهد جهيد.
هذه القامات الأهرامية التي تعطرت صفحات "الأهرام" برحيق جهدها طويلاً من حقهم علينا، أن تتعرف الأجيال الجديدة عليهم وتتعلم منهم، وكنت أنتظر من "معهد الأهرام الإقليمي للصحافة" أن ينظم لهم محاضرات يتبادلون فيها رحيق خبرتهم مع الصحفيين الجدد.
[email protected]