موقع مصر يعرضها دائمًا لأطماع القوى الخارجية؛ ولذلك تعرضت مصر لغزوات كثيرة عبر تاريخها، ومع ذلك استطاعت مصر دائمًا أن تدمج الغزاة فيها، وتحتفظ بطباعها الخاص، وخاصة في الجانب المادي والمدني في الحضارة، فالزراعة لم تتغير كثيرًا إلى أن جاء الري الدائم حديثًا وعمل الفلاح ومعيشته.
ونظام القرية لم يختلف كثيرًا منذ العصر الحجري الحديث، وكثير من العادات والتقاليد الريفية لا تزال كما كانت من آلاف السنين، فما السر في هذا الاستمرار العجيب، وفي هذه المحافظة الشديدة على الماضي والتمسك به في بلد تقع وسط العالم ومتصلة عبر تاريخها بالعالم الذي حولها، أو على الأقل مصر بلد ليست معزولة عن العالم.
فهناك أسباب عديدة من أهمها أن حضارة زراعة النهر بوجه عام شديدة المحافظة على القديم والتمسك بعاداتها وتقاليدها؛ ومثال ذلك الصين وغيرها من بلاد أخرى؛ لأن نظام الفيضان قد طبع الزراعة بطابع خاص؛ فهو يجدد نفسه كل عام بانتظام، ونظام العمل بوجه خاص يؤثر على صاحبه؛ حيث لكل مهنة أثرها الواقع على شخصية القائمين بها؛ فمثلا شخصية المزارع تختلف في كثير من الأبعاد عن شخصية التاجر أو رجل الأمن أو غيره، فبيئة العمل تؤثر بوضوح على القائمين بهذا العمل، وكما أن الاستمرارية هنا لا تعني الجمود أو الركود الحضاري، بل إن الحضارة المصرية صالحة للبقاء؛ لأنها مثمرة فلا يبقى سوى الأصلح والأفيد ومن هنا كانت الاستمرارية .
وبالإضافة لما سبق، فإن الصحراء المصرية كانت بمثابة الدرع الواقية لمصر من شر الغزوات، وهي وإن لم تقطع صلات مصر بالعالم الخارجي تمامًا، فإنها قد خفضت وحددت ونظمت العلاقة بالعالم الخارجي، وبالتالي خفضت من أثرها فهي بمثابة حائط صد فاستطاعت مصر بفضل ذلك من أن تتحمل الغزوات، وأن تهضمها لتخرج مصرية في النهاية، وهنا نتذكر مقولة أسامة أنور عكاشة في مسلسل "أرابيسك" إن مصر كالمعدة تتناول مختلف أنواع الطعام وتهضمه جيدًا وتصبغ العناصر الدخيلة بالصبغة المصرية في النهاية، كما أن الصحراء المصرية ساعدت على حماية مصر والحد من الهجرات والغزوات ومن تأثيرها، وفي جميع الحالات استطاعت مصر أن تنهض وتعاود عطاءها الحضاري بعد أي فترات تراجع أو اضطرابات، ومصر من هذه الناحية تحديدًا تختلف عن كثير من الحضارات أو البلاد الأخرى ذات الدور الحضاري.
وبالتالي فموقع مصر وسط العالم أعطاها فرصة للاحتكاك والاتصال الثقافي والحضاري بالحضارات الأخرى، وفي الوقت نفسه كان الموضع والصحراء المحيطة بالوادي بمثابة حائط صد منع، أو حد كثيرًا من كم وكيف هذه الغزوات؛ مما أعطى مصر في النهاية قدرًا مفيدًا من العزلة بحكم الموضع، وقدرًا مفيدًا من الاحتكاك الحضاري بحكم الموقع؛ مما أدى في النهاية إلى أن الشخصية المصرية فريدة ليست منفتحة لحد الذوبان أو منغلقة لحد الجمود.
ومن هنا فالشخصية المصرية متميزة وفريدة تجمع بين مميزات الموقع والموضع، ومميزات الاحتكاك والعزلة بدون سلبيات كل منهما على حدة، وكل ما سبق أنتج الشخصية الوسطية الفريدة - كما يقول مفكرنا الكبير جمال حمدان - فمصر فلتة جغرافية على مستوى العالم، فمصر تتمتع بالوسطية في أحلى صورها، وهذا يتضح في كثير من جوانب الحياة المصرية، وفي مختلف مراحل التطور الحضاري في مصر.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر الأزهر الشريف، برغم ظروف نشأته في العصر الفاطمي، فإنه يمثل الوسطية في الفكر الإسلامي على مستوى العالم، وأصبح له الدور الأساسي والرئيسي في تبني الفكر والمنهج الإسلامي الوسطي على مستوى العالم، وللكنيسة المصرية أيضًا دورها الإقليمي والدولي في المسيحية، وهذا هو سر استمرارية الحضارة المصرية في العطاء الحضاري، والدور الإقليمي والعالمي لمصر عبر التاريخ.
ويمتد التأثير والدور الحضاري لمصر من خلال خير جند الأرض وجيشها العظيم الذي كان له الدور الحاسم والرئيسي في معظم فترات التاريخ الإسلامي؛ سواء في حطين أو عين جالوت إلى حرب أكتوبر، ودور مصر القيادي في تحرير أراضي وثروات العالم الثالث في العصر الحديث، فهذه هي مصر وعطائها الحضاري للعالم أجمع منذ فجر التاريخ، وهذا هو دورها العالمي وليس الإقليمي.. والله الموفق.