يعد كتاب "حضارة مصر أرض الكنانة" من أهم الكتب التي تناولت الشخصية المصرية عبر تاريخها، ومؤلف الكتاب هو الدكتور سليمان أحمد حزين من مواليد 1909، وتوفي 1999م، وتخرج في كلية الآداب قسم الجغرافيا والعلوم السياسية، وأيضًا قسم الاجتماع والدراسات الفلسفية؛ حيث التحق بالقسمين معًا، وحصل على الليسانس من القسمين عام 1929، وكان في أثناء دراسته شديد الحرص على حضور معظم محاضرات اللغة العربية.
ولذلك كان صديقًا مقربًا من عميد الكلية آنذاك الدكتور طه حسين، ثم أوفدته الجامعة في بعثة علمية إلى جامعة ليفربول بإنجلترا؛ للحصول على الماجستير عام 1933، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة مانشستر عام 1935، وهو عالم موسوعي لتنوع ثقافته واهتماماته، ورجع مصر وأسس جامعة أسيوط عام 1955، واستمر رئيسًا لها إلى عام 1965، وكان أول ما فعله في الجامعة أنه أصر على أن تكون الجامعة بلا أسوار تعزلها عن الوسط الاجتماعي المحيط، وعن سكان المدينة الذين كانوا خليطًا من العمال والفلاحين والتجار والموظفين، وجعل مداخل الجامعة امتدادًا لشوارع المدينة، رافضًا بشدة فكرة الأسوار، وعزل الجامعة عن المجتمع.
شغل مؤلف "حضارة مصر أرض الكنانة" منصب وزير الثقافة، ثم اختير رئيسًا للاتحاد الجغرافي العربي وأنشأ المعهد الثقافي المصري بلندن، وأنشأ المركز المصري للثقافة العربية والإسلامية في مدريد عام 1950، واختير عضوًا بمجمع اللغة العربية عام 1978، وكان عبقري مصر - جمال حمدان - من تلاميذ دكتور سليمان حزين، الذي تنبأ لـ"حمدان" بالتفوق والإبداع.
أما عن كتابه "حضارة مصر أرض الكنانة" فهو ينقسم إلى مقدمة وتسعة فصول، ويبلغ عدد صفحاته 150 صفحة من الحجم الصغير، وهذه هي النسخة الثانية المختصرة وصدرت عام 1991، وهي تكاد تكون نصف النسخة الأولى؛ حيث حذف الكاتب بعض الفصول المتخصصة، والتي قد يصعب على غير المتخصصين متابعتها، وتناول الكاتب في مقدمة الكتاب منهج الدراسة، موضحًا تطور الدراسات الجغرافية منذ عصر بطليموس المصري في القرن الثاني بعد الميلاد للآن؛ حيث أصبحت الجغرافيا علمًا جامعًا لمعظم العلوم الأخرى.
ومن خلال هذا المنهج يحاول د. سليمان حزين تفسير الحياة والحضارة في أرض الكنانة، ويذكر المؤلف أنه تعمد اختيار اسم "أرض الكنانة"، وقد يرجع أصل هذه الكلمة إلى الأرض المكنونة، والتي حفظها الله في قلب الصحراء، والكنان في اللغة ما يستر الشيء ويحميه، والكنانة أيضًا هي الجعبة الصغيرة من الجلد التي تحفظ فيها عيدان النصال أو النبال، وهي تحمل على الكتف عادة؛ لتنطلق عند الحاجة بالقوس لضرب الأعداء، ويضيف المؤلف أن مصر فعلا بلد مكنونة محمية بين الصحارى المجاورة، وواديها محفوظ بحافتي الهضبة كما أن الصحراء المحيطة بها كانت سدًا منيعًا أمام الغزاة يصعب اجتيازها إلا نادرًا، وبالتالي يصعب الهجرة إليها، ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك لمناقشة وتحليل مقولة المؤرخ الإنجليزي هيردوت في القرن الخامس قبل الميلاد، حينما قال إن مصر هبة النيل رافضًا هذه المقولة؛ حيث كان النيل موجودًا في مصر وغيرها من البلاد، ولم تكن هناك زراعة أو حضارة؛ حيث كان النهر جامحًا وشديد القسوة؛ سواء في مواسم الفيضان أو الجفاف، ثم مع قدوم العصر الحجري الحديث - وهي الفترة ما بين الألفية السادسة والرابعة قبل الميلاد - بدأ الإنسان على استحياء النزول إلى قاع الوادي وبعض جهات الدلتا.
لكن استقرار الإنسان كان مؤقتًا؛ فهو يحاول على استحياء استعمار بعض المناطق في جنوب الوادي وأطراف الدلتا، ولكنه ظل يخشى النهر الجامح الذي يهدد فيضانه الحياة على ضفتي الوادي ويغرق الحرث والنسل، ولكن بالمثابرة والجهد استطاع المصري التوافق والتكيف مع النهر، وبدأت الزراعة في مصر، ثم علمتها للعالم.
ولذلك فحضارة مصر ليست هبة النيل بقدر ما هي هبة المصريين، أو هي في الحقيقة ثمرة جهد وجهاد الإنسان المصري في بيئة صالحة، وهنا يجب أن نلاحظ أن الزراعة قي مصر ليست زراعة بدائية، كما في زراعة المطر؛ حيث يسقط المطر وينبت الزرع بدون جهد يذكر من الفلاح أو المزارع.
لكن الزراعة في مصر - وهي بدايات الزراعة النهرية - هي زراعة هندسية مركبة تعتمد على تنظيم جريان النهر؛ فهي زراعة صناعية تعتمد على خبرة الإنسان وبراعته، وإلا فلماذا لم تقم هذه الزراعة في بقية البلدان التي يمر بها نهر النيل هنا الفارق الإنسان المصري هو الذي صنع الفارق والحضارة.
ومن هنا قامت الحضارة في مصر وحدها، واكتملت الصورة الحضارية لمصر مع الوحدة الشاملة بين الصعيد والدلتا، وكانت حضارة شاملة ليست في الزراعة فقط وتنوع محاصيل الشتاء والصيف؛ ولكنها حضارة شاملة تمتد إلى علوم الفلك والعمارة والتحنيط والمعابد والمقابر وإنشاء الأهرامات؛ تلك حضارة أرض الكنانة التي يعود الفضل فيها للإنسان المصري قبل نهر النيل.
هذا الإنسان لم يكتف فقط ببدء الحضارة على كوكب الأرض، وتعليم الناس الزراعة، ولكن أيضًا عليه دور تاريخي ممتد إلى ما شاء الله فهي أمانة تاريخية يحملها المصري على مر العصور؛ لأن مصر بلا شك من أقدم الحضارات المستقرة إن لم تكن أقدمها فعلا، كما كانت بلا شك أكثر الحضارات استمرارًا وبقاءً على مر الزمن، وهذه ميزة مصر التي تنفرد بها وسط الأمم والحضارات.. والله الموفق..