تستطيع أن تلتقيه دون تحديد موعد مسبق؛ ودون أن يستلزم ذلك ضرورة المرور على "طاقم سكرتارية" من الحسناوات؛ يطالبونك بملء "استمارة بيانات" عن غرض المقابلة؛ وربما عن تاريخ جذور عائلتك وصناعة الوالد وثروته ومركزه الاجتماعي وموقفه السياسي.. وربما الكروي؛ وتستغني أيضًا عن ارتداء "الردنجوت" والتأكد ـ في المرآة ـ أن الكرافت الشيك في مكانها الصحيح دون اعوجاج يفسد رونقك وجمال طلتك؛ وربما بعد كل هذا يتحتم مرورك عبر "البوابة الإلكترونية" لفحص محتويات جيوب البدلة الأنيقة؛ ثم تفاجأ بالمقولة الشهيرة في أوساط البيروقراطية المصرية: "فوت علينا بُكرة.. ياسيِّد"!
إنه هذا اللقاء النوراني مع "الله" العلي القدير القادر المقتدر العزيز الجبار! وفي المكان والزمان الذي تختاره أنت؛ وفي اللحظة الفارقة التي يضيق فيها الكون أمام عينيك وقلبك وصدرك؛ وقتئذ لن تجد غير"باب الله" مفتوحًا على مصراعيه ودون "لمبات حمراء" تمنع دخولك إلى سدرته العليَّة، وقطعًا لن تجد الكلمات التي تريد الإفصاح بها عن مكنون روحك، إذ يقول جلَّ شأنه: "وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِۦٓ ۖ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ"، لتبدأ مناجاتك وتبث شكواك بالطريقة التي تحلو لك وتجد فيها الراحة في كنف "الرحمن الرحيم" ! ولن يستوجب هذا الصفاء أن ترفع يديك إلى أعلى فالله أقرب إليك من حبل الوريد.
هذه هي المعاني السامية الراقية التي أراد الإعلامي د.محمد الباز؛ في إطلالته المدهشة علينا ببرنامجه "باب الله" ليخاطب بها الإنسان/الإنسان؛ دونما تحديد لعقيدته وانتماءاته وقناعاته بكيفية مخاطبته "الله"؛ ليقول لنا في سرد مبهر وسلس: "أعبدوا الله حسبما ترَون وتريدون شفاعته"! يستوي في هذا المسلم والمسيحي واليهودي، ومن يعتنقون المذاهب الزرادشتية والكونفوشيوسية؛ طالما كان التوجه إلى "الله" بكل النقاء والصفاء الروحي الذي يعلمه المولى، وكأنه يردد مقولة الأب (متى المسكين): "مجرد الإحساس بالوجود في حضرة الله، كفيل أن يعطي الإنسان سلامًا قلبيًا يفوق العقل بكل اضطراباته وعجزه".
إن د.الباز ــ وله من اسمه نصيب كعادة النسور ذوي العيون الثاقبة ــ يحلَّق علينا من علٍ بثقافته الأكاديمية وخبرته الصحفية؛ ليقدم لنا وجبة روحية شهية؛ مدعمة بنماذج من الأعمال التي وثقتها دراما السينما المصرية في مختلف الحقب الفنية؛ أو بشهادات الشخوص المعنيين بما يرويه لنا، في محاولة أن يصل بنا بكل الإقناع المادي والعلمي والروحي أن "الله" جل عُلاه؛ لا يحتاج في مناجاته إلى "وسيط" من رجالات الكهنوت الديني والاجتماعي والسياسي، ولا يحتاج الدخول إلى حضرته ارتداء الجلباب الأبيض أو مسبحة من حبات الزمرد والعقيق، ويكفي الخشوع الداخلي النابع من سلاف الروح؛ فكل من يلجأ إلى "باب الله" ستجده يردد في أعماقه ما قاله "عمر الخيام":
يا من يِحارُ الفَهمُ في قُدرَتِك ** وتطلبُ النفسُ حِمى طاعتك
أسْكَرَني الإثم ولكنني ** صَحَوْتُ بالآمال في رَحمَتِك!
ويحاول د.الباز مشكورًا الاقتراب من وضع وتصور إجابات منطقية للأسئلة الحيرى على ألسنتنا جميعًا؛ وامتلك الجرأة لتناول "المسكوت عنه" في تراثنا وتحدث عن "العنعنات" التي تحتاج إلى تنقيتها من الشوائب التي اعترضت مجرى نهر العقيدة في سريانها المتدفق عبر الزمان واختلاف الآراء والتأويلات التي خضعت لأفكار بعض المتشددين في أمور الدين والدنيا، بل إنه يفجِّر أسئلة جديدة تحتاج منَّا إلى التروي والهوادة في وضع إجابات منطقية لها، وهي دعوة لإعمال العقل ولم يفرض علينا رأيًا بعينه! إنه يضعنا أمام مسئوليتنا تجاه الأجيال الصاعدة وسرعة تحديد موقفنا من "تجار الدين" ودعاة تشويش الأفكار لاحتلال أفكارنا بتوجهاتهم التي لا تنتمي إلى صحيح الإيمان والعقيدة، ومن ثم نصبح لقمة سائغة في أفواههم لخدمة مخططات الغرب الاستعماري في الاستيلاء على العقول.. قبل الاستيلاء على الأرض والدواب.. فمن يمتلك الرأس يمتلك كل شيء!
إننا بحاجة ماسة دائمًا إلى هذه الأجراس التي يقرعها المخلصون من أبناء هذه الأمة؛ لينتبه الغافلون ممن سلموا زمام عقولهم لمن يتلاعب بها بالخديعة والرياء؛ وبخاصة ما تناوله بالشرح ببساطة أحلام العقل الجمعي - دون اتفاق ضمني مسبق - بانتظار ما يسمونه "المهدي المنتظر" أو حلم الجميع بظهور "العدل" متجسدًا في هذا "المُنتظر" الذي لا يجيء منذ بدء الخليقة؛ أو لعله عاش أو مازال يعيش بيننا متجسدًا في الشخصيات التي قدمت العديد من الخدمات للبشرية من كل جنس ولون في كل أركان العالم؛ ورفعتهم أعمالهم الإنسانية ـ في أعيننا ـ إلى مصاف القديسين الأنقياء الذين تركوا بصماتهم الواضحة على سطور صفحات التاريخ القديم والحديث والمعاصر في مناحي الحياة كافة؛ منهم على سبيل المثال: "وليم شكسبير" "وشارلز داروين" و"كارل ماركس" و"المهاتما غاندي" و"ألبرت أينشتاين" و"نيلسون مانديللا" و"الأم تيريزا" ود."مجدي يعقوب" وغيرهم، أو لعله سيجيء حين تتخلى النفوس السوداوية عن ارتكاب المظالم وسفك الدماء؛ ليسود العدل والسلام أركان العالم؛ ونعبد "الله" الجالس على العرش القابض على ملكوت كل شيء.
ولعلي اختلف بعض الشيء مع النظرية التي تبرر "ظهورات" وتجليات "السيدة العذراء"؛ وإيعازها إلى الأزمات السياسية في مصر، وسائر العوالم التي ظهرت فيها منذ ألف وخمسمائة عام؛ آخرها بكنيسة الورَّاق على نيل مصرنا المحروسة.
فإن الإحساس الجمعي - بالحقيقة أو الوهم - يُرجع هذا إلى الظلم وغياب العدل وهما السبب الرئيس في تلك التجليات المتكررة؛ لأن السياسة من صنع السياسيين وليس للأحبار والقديسين دخل فيها.
إننا نقف إمام هذا التناول الذي اجتمعنا على ضرورة تواصله مع الجماهير من كل جنس ولون؛ حتى نصل بقناعاتنا إلى أن "الله" لا يحتاج منَّا سوى النقاء الروحي والصفاء النفسي الذي يحولنا إلى أجساد كالبللور؛ تعكس ما بداخلنا من نورانية وتشملنا نفحات علوية من روح الله.
إن د.الباز "قدم بحق حديث العقل والقلب في آن معًا؛ فقد كان حصيفًا واعيًا؛ حين دق "باب الله" مع طلائع نفحات الشهر الفضيل؛ لأسباب لعل أهمها الإحساس بقبول الناس لتلك المناقشات في هذا التوقيت؛ وردًا قويًا على الأدعياء الذين خرجوا علينا بوابلٍ من الفتاوى غير العقلانية؛ والتي ما أنزل الله بها من سلطان؛ ومع الأسف يتركونهم يصولون ويجولون في كل الميادين الإعلامية دون رادع أو وازع من ضمير، كما استشعرت انه قد تلقف دعوة الرئيس السيسي لتجديد وإصلاح الخطاب الديني فأخذ على عاتقه الاضطلاع بدوره كمصري وطني في المقام الأول قبل أن يكون إعلاميا يمتلك الكثير من الأدوات.
لقد وفق الباز أيما توفيق - في تقديري - سواء اختلف معه البعض أو اتفق في شق طريق جديد لإصلاح لغة الخطاب الديني.. ووضع حجر أساس ليستكمل المشوار من يريد لمصرنا السلامة والنجاة من الوسائط المغرضة المضللة، فعقولنا وقلوبنا خير وسيط يدق باب الله.