كثيرا ما كنت أسمع عما يسمى باكتئاب ما بعد الولادة الذى يصيب بعض السيدات، أو الاكتئاب المصاحب لتغير الفصول الذى غالبا ما يرتبط بفصلى الخريف والشتاء، ولكنى لم أسمع عن اكتئاب ما بعد المعاش، وليس من رأى كمن سمع، فقد وجدت أن الرجل "المصرى" الذى يحال إلى المعاش، غالبا ما يشعر بهذا الاكتئاب لأسباب مادية وأخرى نفسية.
ولعل أهم الأسباب "المادية" التى تسبب اكتئاب ما بعد سن المعاش، هو أن الدخل المادى للشخص يهبط إلى حوالى الربع، ويجد نفسه محاصرا، لا يستطيع أن يلبى متطلباته ومتطلبات أسرته، فى ظل الارتفاع الصاروخى للأسعار من كهرباء وغاز ومياه وبنزين ومواصلات وخضر وفاكهة وجميع الخدمات.
فى نفس الوقت الذى يجد الشخص نفسه مازال مطالبا بنفس المطالب من رعاية الأولاد الذين مازالوا فى مراحل الدراسة المختلفة، أو ربما يكون محتاجا إلى مساعدتهم فى تكاليف الزواج، والذي إن لم يفعل، فلن يستطيعوا هم الوفاء بها، فإذا أضفت إلى قلة الدخل، زيادة الأسعار وخصوصا في الدواء، فلاشك أن حال الإنسان المصري الذي يحال للمعاش، مرشح بدرجة كبيرة لأن يشعر بالاكتئاب.
أما الأسباب النفسية التى يمكن أن تؤدى لهذا الشعور، هو حاجة الرجل إلى العمل، وهو هنا غير المرأة، التي تعتبر أن بيتها واهتمامها بأسرتها قضيتها الأولى، ولذلك لا تقع المرأة في هذا الشعور مثل الرجل، الذي يعتبر أن العمل هو كينونته الأولى، فهو بلا عمل قد أصبح إنسانا بلا فائدة أو قيمة في المجتمع أو في أسرته، وأن كان مازال قادرا على العطاء والعمل، فإنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يجد من يصل إلى سن المعاش عملا في مجتمع نامٍ كمجتمعنا.
في الوقت نفسه الذي تعانى فيه نسبة كبيرة من الشباب من البطالة ولا تجد عملا. مما يصيبه بالعزلة، والعجز، والفراغ الكبير الناتج عن كثرة الوقت وقلة العمل.
وفى الغرب، كثيرًا ما قرأنا أن هذه المرحلة السنية، هي مرحلة "السعادة" للشخص، الذي يتخلص من أعباء العمل، بل غالبا ما يكون هناك العديد من الخطط التي يعدها لمثل هذه المرحلة من العمر، كالسياحة حول العالم، أو ممارسة هوايته التي ربما حرم منها لانشغاله في العمل، أو ممارسة نشاط اجتماعي يقضى على وقت فراغه ويكون له دور في المجتمع والمشاركة به، وربما يتفرغ لملاعبة الأحفاد.
حتى نجد أن أصحاب المهن والشركات الخاصة، عند سن معينة، يعلن أنه سيتقاعد، وسيترك إدارة الشركة لشخص آخر، وهو مالا نجده لدينا في القطاع الخاص لدينا، حيث يظل الرجل يدير شركته حتى الموت، وربما دون أن يستمتع بما جمعه من أموال.
فهل اكتئاب المعاش هذا، مرتبط بظروف "مادية" بحته، تجعل الرجل الغربي الغنى يستغنى عن العمل فى وقت معين، ربما لأن دخله بعد المعاش سيكفيه، وعلاجه يكون مأمونا؟ أم أننا فى "الشرق" نعشق "النكد" و"الاكتئاب"، ونعيش ونموت دون أن نعرف ثقافة الاستمتاع بحياتنا؟
[email protected]