اتساقًا لما سبق في مقالي الأخير حول وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعا عليها وأخرجاها للعالم - نبراسًا أخلاقيًا ودستورًا سلوكيًا يتشارك فيه المسلمون والمسيحيون في كل أنحاء العالم، لتكون أهم الوثائق تأريخًا للعلاقة بين الإسلام والمسيحية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وفرنسيس الثاني، بابا الفاتيكان.
أقول إن الهدف من انطلاق وإخراج الوثيقة للنور، كان تلك المسئولية الدينية والأدبية الملقاة على عاتق هذين الرمزين الدينيين في العالم، مطالبين أنفسهم وكل قادة العالم والاقتصاد والسياسة أجمع، بالعمل على نشر ثقافة التسامح والسلام والتعايش الإنساني، والتدخل الفوري لوقف سيل الدماء البريئة التي تنزف دون مراعاة حرمة لله، أو وخز لضمير.
وما مذابح المسلمين في بورما وغيرها من بقاع العالم منا ببعيد، ووقفًا لحروب وصراعات ملأت الأرض جورًا وظلمًا، شُتت فيها وعبرها الملايين من اللاجئين والنازحين، وعلاجًا لما أصاب البشرية من انحدار أخلاقي وثقافي وسلوكي يشهده الجميع، وأضحى واقعًا يعيشون فيه، فكانت الوثيقة خارطة طريق قويمة للأخلاق والمبادئ الإنسانية، توجه بها الرمزان الدينيان إلى المفكرين ورجال الدين والفلاسفة والإعلاميين والمبدعين والفنانين في كل مكان، ليعيدوا من خلالها اكتشاف قيم السلام، والعدل، والخير، والجمال، والأخوة الإنسانية، والعيش المشترك، مؤكدين أنها طوق نجاة للجميع، ويد حنونة تأخذ بيد من أضل السبيل من الناسِ لتعيده مرة أخرى إلى حظيرة القيم السمحة في كل مكان، بعد تغييب الضمير الإنساني وإقصاء الأخلاق الدينية.
وكم أعجبني ما حوته الوثيقة طرحًا لأسباب تلك المآسي الذي يعيشها المقصودون منها بالعالم، فذكرت مشددة أنه مع التقدير لكل الجوانب الإيجابية التي حققتها الحضارة الحديثة في ميادين العلم والتقنية التكنولوجية والطب والصناعة والرفاهية الموجودة خاصة في الدول المتقدمة، إلا أنها –الوثيقة - تسجل مع كل تلك القفزات التاريخية النهضوية تراجعًا مصحوبًا في الأخلاق الضابطة للتصرفات الدولية، وانحسارًا لقيم الروح والشعور بالمسئولية، مما أسهم في نشر وخلق نوع من الإحباط واليأس والعزلة، دفع الكثير إلى الانخراط في دوامة التطرف الإلحادي، أو التطرف الديني الأعمى المتشدد والمتطرف، وتبنيه أشكالاً من إدمان التدمير الذاتي والجماعي.
الوثيقة بيّنت أن التطرف الديني والقومي والتعصب أثمر في العالم، سواء في الغرب أو الشرق، ما يمكن أن نطلق عليه بوادر "حرب عالمية ثالثة على أجزاء"، بدأت تكشف عن وجهها القبيحِ في كثير من الأماكن، مشددة أيضًا على أن الظلم وافتقاد عدالة التوزيعِ للثروات الطبيعية - التي يسأثر بها قلة من الأثرياء ويحرم منها السواد الأعظم من شعوب الأرض- قد أنتج وينتج أعدادًا هائلة من المرضى والمعوزين والموتى، وأزمات قاتلة تشهدها كثير من الدول، برغم ما تزخر به تلك البلاد من كنوز وثروات، تجعل ملايين الأطفال يموتون جوعًا، وتتحول أجسادهم - من شدة الفقر والجوعِ - إلى هياكل عظمية بالية، في صمت غير مقبول يسود العالم، ووضع عالمي تسيطر عليه الضبابية وخيبة الأمل والخوف من المستقبل، وتتحكم فيه المصالح المادية الضيقة.
من هنا كانت دعوة وصيحة الوثيقة المدوية للأسرة لكونها نواة للمجتمع وللبشرية، بالتأكيد والتشديد على أهمية إيقاظ الحس الديني والحاجة لبعثه مجددًا في نفوس الأجيال الجديدة عن طريق التربية الصحيحة، والتنشئة السليمة، والتحلي بالأخلاق، والتمسك بالتعاليم الدينية القويمة.
كما حوت الوثيقة تأكيدًا وقناعات راسخة دعت إليها العالم أجمع في التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، مبيّنة أن الحرية حق لكل إنسان اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسة، وأن العدل القائم على الرحمة، حق لكل إنسان أن يحيا في كنفه، مشددة على أن الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، يسهم في احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأن حماية دور العبادة، من معابد وكنائس ومساجد، واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، والعلاقة بين الشرق والغرب ضرورة قصوى لكليهما، لا يمكن الاستعاضة عنها أو تجاهلها، لتختتم بابتهال إلى الله أن تكون هذه الوثيقة دعوة للمصالحة والتآخي بين جميعِ المؤمنين بالأديان، وغير المؤمنين، ونداء لكل ضمير حي ينبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، وشهادة لعظمة الإيمان بالله الذي يوحد القلوب المتفرقة، ورمزًا للعناق بين الشرق والغرب.
وهكذا أراني أشدد أيضًا أن كل ما حوته وثيقتنا المشار إليها في حديثنا، لم يخرج قط، ولا قيد أنملة عن تعاليم ديننا الإسلامي وشرعنا الحنيف الذي أرسل به خاتم النبيين - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - رحمة للبشرية والعالم كافة، وصدق ربنا سبحانه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".
ويحق الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل، الحق بقوله في كتابه الأبطال: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث في هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا خداع مزور، ولنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنًا لنحو مائتي مليون من الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟!