تحتفل الأمة جمعاء - هذه الأيام - بميلاد نبيها الرحمة المهداة، الرءوف الرحيم، نعمة ربنا الجليل علينا، الذي وصفه ربه سبحانه بقوله: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"، والعالمين، كل ما سوى الله عز وجل، كعالم الإنس والجن، والحيوان، والنبات والجماد كما يفسرها الإمام الشعراوي.
رسولنا الذي فاضت رحمته وإنسانيته ومكارم أخلاقه الكون والآفاق كله، فكانت رحمته بأمته أن شهد له الله بها فقال تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم"، تلك الإنسانية والرحمة النموذج المقتدى التي جعلت البشرية كلها عامة ومستشرقيها ومفكريها خاصة، والعدو قبل الصديق، تنبهر به منذ القدم وإلى قيام الساعة، ومما حدا بالفيلسوف الفيزيائي الفلكي اليهودي الأمريكي مايكل هارت حين ألف كتابه "الخالدون المائة" وهو يضع أعظم مائة شخصية مؤثرة في التاريخ، أن يجعل نبينا العظيم "صلى الله عليه وسلم" أول هؤلاء العظماء، معللًا ذلك قائلًا: "لأنّه أعظم إنسان تميز على المستوى الديني والدنيوي، له تأثير عميق، اتسع أمده، وعمق أثره وسعته.
ومما جعلت رحمة وإنسانية نبينا، المستشرق الإندونيسي الدكتور نيس أستاذ الدين المسيحي في جامعة برمنجهام في أحد مؤتمراته أن يخاطب نبينا شكرًا وثناء قائلا: "يا ابن مكة، يا ابن سلالة العظام، يا معيد مجد الآباء والأجداد، يا مخلّص العالم من عبودية الآلهة المزيفة، لم يفتخر بك العالم وحده، وإنما خالق هذا العالم قد أثنى على مواهبك وقدّر مساعيك، يا وارث إبراهيم، يا هادي أهل الأرض إلى السلام، فصاروا مشغوفين بحبك، كما أنك علمتهم شعار الإخلاص في القول والعمل، يا رسول الله اقبل شكري وثنائي".
رحمته التي شملت أمته فآثرها بدعوته المستجابة على نفسه، شفاعة ورحمة لهم، حين قال: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته؛ وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة؛ فهي نائلة إن شاء اللَّه من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئا"، وحين بلغت رحمته بأمته أن يترك العمل وهو يحبه، خشية أن يفرض عليهم فيشق عليهم أداؤه، مخاطبًا إياهم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
وحين يكون خير راحم بأهل بيته، القائل: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، فنجده في مهنة أهله؛ يوحى إليه، ومع هذا يحلب شاته، ويخيط ثوبه، ويخصف نعله، ضاحكًا مبتسمًا معهم، يلاطفهم ويلاعبهم ويسامرهم، وحين تتجلى رحمته "صلى الله عليه وسلم" بالنساء فيوصى بهن خيرًا، القائل: "استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلعِ أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا".
وحين تتجسد أسمى معاني رحمته في حروبه ومع أعدائه، حين يوصي "صلى الله عليه وسلم" جيشه المتجه إلى معركة مؤتة، قائلا: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلًا بصومعة".
وحين يرحم الجاهل والعاصي والمذنب، كما قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي: "دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"، وينصح المخطئ والعاصي، مناديًا لهم: «ما بال أقوام»، دون فضح أو تجريح، وكما فعل مع الشاب الذي جاءه ليستأذنه في الزنا، فأخذه ناصحًا معلما بالحسنى والمعروف، حتى صار الزنا أبغض ما يكون عند الشاب.
وحين نرى رحمته "صلى الله عليه وسلم" بالأطفال، قائلا: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"، وحين يحمل الأطفال، ويصبر على أذاهم، كما جاء عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، إلى رسول اللَّه لم يأكل الطعام، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله" في حنو لا نظير له.
وحين ترى وتسمع البشرية كلها برحمته بالحيوان قبل جمعيات حقوق الحيوان، حينما نهى أن يتخذ الروح غرضا للرمي، فعن سعيد بن جبير، قال: مر ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرًا، وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللَّه مَن فَعلَ هَذَا، إنَّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا"، بل يأمر بالإحسان للبهائم عند الذبح، كما قال شداد بن أوس: "اثنتان حفظتهما عن رسول الله ، قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرِح ذبيحته"، وحين شكا الجمل إليه بتجويعه وإيذائه، فأخذ حقه من صاحبه الأنصاري، وحين يقص "صلى الله عليه وسلم" علينا قصة الرجل وباغية بني إسرائيل اللذين سقيا كلا منهما كلبا، فدخلا بهما الجنة، ويحذرنا من إيذاء الحيوان، كما في حديث المرأة التي حبست الهرة فاستحقت النار.. فاللهم "صلى وسلم وبارك عليه"، واجزه عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء.. وكل عام أنتم بخير.
[email protected]