قضية تدريس اللغات الأجنبية في مراحل التعليم الأولى، والجدل المثار حولها تعكس غياب الرؤية الشاملة في التخطيط والأخذ بحلول جزيئة منفصلة عن بيئاتها..
بداية معظم دول العالم المتقدمة تمنع تدريس اللغات الأجنبية في مراحل التعليم الأولى؛ حماية للغة الوطن، ويتم ذلك في إطار منظومة تعليمية شاملة تتضمن عدة حقائق أهمها ما يلي:
هناك نظام تعليمي موحد يسري في جميع أنحاء البلاد عكس الواقع في مصر، حيث هناك تعليم عام وتجريبي وخاص ودولي، الذي ينقسم بدوره إلى إنجليزي وفرنسي وألماني وغيره..
وبالتالي فإن منع تعليم اللغات في بعض أنواع التعليم أو المدارس يخل بالعدالة وتكافؤ الفرص، وسيترتب عليه مشكلات أخرى، فضلا عن أنه لن يحقق الهدف المرجو.
إن المجتمع المصري - والعربي بوجه عام - يعيش مرحلة استيراد الحضارة بكافة صورها من منتجات صناعية إلى منتجات زراعية إلى أبسط المنتجات والأشياء، وفي مثل هذه المرحلة تزداد الحاجة إلى تعلم اللغات الأجنبية في سوق العمل؛ بل يفضل إجادة لغات متعددة للتعامل مع التوكيلات المختلفة، وتكون إجادة اللغات ضرورة للحصول على وظيفة مناسبة ودخل جيد، عكس لو كان العرب في مرحلة تصدير الحضارة، كما حدث في الماضي؛ حيث كان الأجانب يسعون لتعلم العربية، وبالتالي كانت أهمية إجادة اللغات الأجنبية تقل نسبيًا.
واقع سوق العمل في مصر - بل في الوطن العربي بوجه عام - في حاجة ملحة وشديدة لإجادة اللغات الأجنبية، بل أصبحت إجادة اللغة شرطًا أساسيًا للحصول على وظيفة مناسبة ودخل جيد في مصر وخارج مصر؛ ولذلك يسعى الأهالي لتعليم أولادهم اللغات منذ الصغر، ومن هنا سيترتب على قرار حرمان طلاب المدارس التجريبية أو التعليم الحكومي من تعلم اللغات انخفاض مستوى الطلاب في اللغات الأجنبية؛ مقارنة بطلاب التعليم الخاص والدولي..
وبالتالي ستكون فرصته محدودة في الحصول على وظيفة جيدة تتطلب إجادة اللغات؛ وهذا سيؤدي إلى زيادة الإقبال على المدارس الخاصة والدولية، وحرمان الطبقة الوسطى من وسيلة تعليمية مناسبة لدخولهم وظروفهم الاقتصادية؛ حيث إن نسبة كبيرة من هذه الطبقة الوسطى تعتمد على هذه المدارس التجريبية، والتي نجحت في تخريج نسبة عالية من المتفوقين على مستوى الجمهورية؛ وذلك نتيجة ضعف مستوى مدارس التعليم الحكومي؛ مما يزيد من الضغوط على الطبقة الوسطى، وهي أهم طبقات المجتمع، وتراجعها سيؤدي إلى تراجع كل خدمات المجتمع تدرجيًا؛ مما ينبئ بأخطار شديدة وعواقب وخيمة على المجتمع بأسره، وخصوصًا مع تزايد أسعار الطاقة والخدمات فهذه الطبقة في حاجة لكافة أنواع الدعم وليست الضغوط؛ لأن تراجعها بالمعدلات الحالية واستمرار ذلك قد يودي إلى انهيار تدريجي للمجتمع والدولة..
ومن شروط نجاح أي قرار - حتى لو كان قرارًا سليمًا - أن نختار الوقت المناسب وتهيئة البيئة المحيطة لإنجاح القرار، وهذا يقتضي الارتفاع بمستوى التعليم الحكومي العام؛ ليصل مستواه إلى مستوى المدارس التجريبية، وبعد ذلك تكون هذه المدارس جاذبة لجميع فيئات الشعب؛ كما حدث في جيلنا؛ حيث كان معظم طلاب المدارس الخاصة من الطلاب غير المتفوقين، وكانت المدارس الحكومية تضم معظم المتفوقين؛ ولذلك تخرج زويل ومجدي يعقوب والباز.. وغيرهم من المدارس الحكومية، وهذا كله يعكس غياب الرؤية المنظومية الشاملة لقضية التعليم؛ لأنها ببساطة قضية تمس المجتمع والاقتصاد والأمن القومي بمفهومه الشامل، كما يعكس غياب التقييم البيئي الشامل للقرارت والانفصال عن الواقع في القرى والنجوع والعشوائيات؛ مما سيترتب عليه حتما مزيد من الخسائر وضياع الوقت والمال والجهد..
كلمة أخيرة.. قضية التعريب غاية في الأهمية بمفهومها الشامل، وتستحق كل الاهتمام على المستوى القومي.. ولا تقتصر فقط على التعليم؛ لأن هناك مجالات أخرى عديدة يجب أن يكون التعريب فيها إلزاميًا، ومن اليوم وليس الغد، فلا يوجد مبرر لوجود أسماء محلات أو شركات مصرية تكتب باللغات الأجنبية داخل بلدنا، وكذلك الإعلانات، وأعتقد أنه كان هناك قانون يمنع كل ذلك أصدرته الثورة في الخمسينيات، فيجب مراجعة ذلك وعلى مجلس الشعب دراسة إصدار قانون صارم في هذا الشأن.. والله الموفق.