"لتُفتحن عليكم القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيوش ذلك الجيش".. بشارة نبوية أطلقها الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل تحقيقها بثمانية قرون ونصف القرن.
جيوش إسلامية كثيرة حملت راية أعاظم خلفاء وأمراء الإسلام حاولت لإحدى عشرة مرة أن تنال هذا الشرف الذي أخبر عنه النبي المعصوم، لكن السلطان العثماني محمد خان الثاني ـ والذي لقب فيما بعد بـ "الفاتح" كان له شرف هذا الفتح العظيم، والذي وافق مثل هذا اليوم قبل 563 عاما.
ولد سابع السلاطين العثمانيين عام 833هـ / 1429م في مدينة أدرنة، ومنذ طفولته المبكرة، تلقى الأمير الصغير العلوم الدينية على يد شيخ الإسلام آق شمس الدين، والذي زرع بداخله حب الجهاد، وجعل من فتح القسطنطينية غاية تكبر كلما كبر وغادر مدارج الصبا إلى بأس الشباب، وأظهر "خان الثاني" براعة في فنون السياسة والحرب، ما دفع والده السلطان مراد الثاني أن يسند إليه الحكم مرتين خلال حياته.
تولى محمد الثاني الحكم رسميا عام 855هـ بعد وفاة والده، وكان لا يزال شابًا في الثانية والعشرين، وكانت الدولة الفتية حينها لا تزال تبسط نفوذها على أراضيها التي شملت أسيا الصغرى واليونان وأجزاء من أوروبا الشرقية، إلا أن السلطان قد جعل من فتح القسطنطينية غايته الأولى، وفى سبيل ذلك وقع الهدنة مع حاكم المجر وأمراء جنوه والبندقية لتحييدهم من الصراع.
ومن أجل ذلك قام السلطان ببناء قلعة ضخمة تطل على البوسفور أطلق عليها اسم "روملى حصار" خلال ثلاثة أشهر فقط، وفى أعلى القلعة التي جاوز ارتفاعها 80مترا نصبت له قبة كان يشرف منها على وضع الخطط ومراقبة تحركات العدو، كان السلطان يستعرض من قبته جميع المحاولات الإسلامية لفتح المدينة، بدءا من حملتي معاوية بن أبى سفيان عامي 49هـ ،54 هـ ، والتي مات خلالها الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، الذي تحول فيما بعد لرمزا إسلاميا لفتح عاصمة الروم، مرورا بحملة الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك عام 98 هـ ، وصولا لمعارك هارون الرشيد ونجله المعتصم ضد "نقفور" ، فهجمات سيف الدولة الحمداني ضد الإمبراطور "نقفور الثاني".
واطلع السلطان على خطط المحاولتين العثمانيتين لفتح القسطنطينية إبان حكم جد أبيه بايزيد الأول "791-804هـ" ، بينما كانت ثاني هذه الحملات في عهد أبيه الذي حاصر المدينة الحصينة بخمسين ألفا من الجنود عام 825هـ.
على الجانب الآخر من البوسفور كان قسطنطين الحادي عشر يقف أعلى أسوار مدينته يراقب الحشد الهائل لقوات العثمانيين، كانت تسيطر عليه هواجس الخوف والفزع وإن بدا متماسكا أمام قواته، كان يصلى في كاتدرائية "آيا صوفيا" متمنيا ألا تسقط المدينة التي أسسها قسطنطين الأول عام 328م في عهد قسطنطين الأخير.
قسطنطين الحادى عشر كان يدرك مدى القوة التي يحظى بها العثمانيون، فهو لا ينسى الحملة الأخيرة على المدينة والتي تصدى لها والده عام 825 هـ /1422م ، ولا ينسى أيضا انه وصل إلى الحكم حين ارتضت أمه "هيلانة" حكم السلطان العثماني مراد الثاني في النزاع على السلطة بين قسطنطين وأخيه تيودور، فهم من نصبوه إمبراطورا، وها هم اليوم يهددون بزوال عرشه وضياع إمبراطوريته للأبد.
أرسل قسطنطين إلى محمد الثاني يلتمس منه دفع الجزية مقابل العدول عن الحصار، ولكن محاولته باءت للفشل، وأصبح إعلان الحرب واقعا لا مفر منه، وهنا لم يجد بدا من مراسلة البابا نيقولا الخامس في روما، والذي اشترط أن تتحد الكنيستان الشرقية والغربية تحت تاج "سان بطرس" مقابل أن يعلن النفير في أرجاء أوروبا، فوافق قسطنطين على الفور.
جذب نفير البابا قوات المتطوعين من ايطاليا وانجلترا وألمانيا، فيما أعفى قوات الإسبان من هذه المهمة للإجهاز على بقايا المسلمين في الأندلس، حيث كانت مملكة غرناطة تزفر زفراتها الأخيرة قبل سقوطها المريع فيما بعد عام 1492هـ ، ولكن تلك القوات المحتشدة لم تكن لتنافس قوات السلطان الكبيرة.
بدأت المناوشات بين البيزنطيين والأتراك، فهاجموا روملى حصار، في حين فرضت قوات السلطان حصارا بريا وبحريا حول عاصمة الروم، وفى 26 من ربيع الأول عام 857هـ ، السادس من أبريل عام 1453م، احتشدت قوات السلطات التي قُدرت أعدادها بين 150-300 ألف جندي بين قوات الصرب والأناضوليين، وفرق الإنكشارية صاحبة الصيت الواسع في شراسة القتال، وسفن حربية جاوزت 300 سفينة خرجت من قاعدة "جاليبولى" العثمانية.
كان قسطنطين مطمئنا لجهة البحر الذي أحيط بسلاسل ضخمة تحطمت عندها كل المحاولات الإسلامية السابقة في حصار العاصمة بحرا، وباءت بالفشل، لكن مناوشات العثمانيين لهم عند منطقة "القرن الذهبى"، مكنت قوات السلطان من جر السفن 3 أميال برا من خلال زلاجات ضخمة غمست في الزيوت، لتتفاجأ قوات قسطنطين بالأسطول العثماني وقد جاوز السلاسل الضخمة محاصرا المدينة من كافة الجهات، ونصبت المدافع والمجانيق الضخمة لضربها.
هنا أرسل السلطان للإمبراطور البائس من أجل الاستسلام وتأمين المدينة وأهلها، ولكن طلبه قوبل بالرفض، ووطن قسطنطين نفسه على الاستماتة من أجل صمود المدينة، وتوالت هجمات الجيش الإسلامى، وانطلقت مدافعة تدك حصون القسطنطينية، واستبسل جنود السلطان، ولاسيما قواته الخاصة من الجنود الانكشارية.
وفى ليلة 29 إبريل عام 1453م، استيقظ السلطان من رؤيا أثلجت صدره، حيث رأى الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري يسبقه لدخول المدينة، وانهمرت السماء بالمطر، فاعتبر ذلك من بشائر النصر، وأمر جنود بإخلاص النية والصلاة، وصلى بهم شيخ الإسلام أق شمس الدين، وما أن حل العصر حتى دخل السلطان المدينة ممتطيا جواده الأبيض، ليؤمن أهلها فى أموالهم وأنفسهم، ويترك لهم حرية الاعتقاد، مكتفيا بتحويل كاتدرائية "آيا صوفيا" إلى مسجد ، ردا على تحويل المئات من مساجد الأندلس إلى كنائس، وأمر بتغيير اسم المدينة إلى "إسلام بول" أي "مدينة الإسلام" لتتحول فيما بعد إلى "اسطنبول".
أما قسطنطين فقد قتل على أبواب المدينة، وأمر السلطان بدفن جثته بطريقة لائقة بقائد استبسل فى الدفاع عن مدينته، في حين تزعم الروايات الأوروبية الأسطورية أن الملائكة تخطفته إلى السماء، وأنه سيظهر في آخر الزمان.
أرسل السلطان بخبر الفتح إلى سائر الأقطار الإسلامية وفى مقدمتهم سلطان المماليك "الأشرف أينال"، التي امتدت دولته لتشمل مصر والشام والحجاز وأجزاء من المغرب والعراق، والذي أمر بتزيين القاهرة وسائر أركان دولته، ولهج العالم الإسلامي بالثناء على السلطان محمد الفاتح الذي أضيف لألقابه، وأرسل أينال مندوبا خاصا لتقديم التهنئة للسلطان العثماني، الذي استطاع أن ينال المدح النبوي دون سائر حكام المسلمين.
كان هذا الانتصار كفيلا بتغيير خارطة العالم بأثره، فقد عدته أوروبا إيذانا بميلاد العصر الحديث، ودفعتها لإهالة التراب على حقبة العصور الوسطى وعدم الاستسلام لنفوذ الكنيسة، أما في الشرق فقد لفت أنظار المماليك إلى أنهم لم يعودوا وحدهم القوة الضاربة للعالم الإسلام، فهناك غيرهم من يحرز النصر ويعلى راية الإسلام، إلى أن تمكن سليم الأول الحفيد الأكبر للسلطان محمد الفاتح فى القضاء على دولة المماليك بهزيمة السلطان قانصوة الغورى في معركة مرج دابق عام 923هـ.
لكن الخلافة القوية شهدت زمن العز هذا، مرت بقرون من الانكسار والترنح، وبدأت براثن الاستعمار تمزقها إربا بين نزاعات مع القوى الأوروبية والروس، إلى أن انتهى بها الحال لتسميتها بـ "رجل أوروبا العالي" ، وبات الخليفة "الباب العالي" بالأستانة لا يملك من أمره شيئا.
وبخروجها منهزمة من الحرب العالمية الأولى، لم تفلح الدولة العثمانية من مقاومة أطماع مصطفى كمال أتاتورك، الذي تستر بالإسلام فى حين تعود أصوله ليهود الدونمة، الذين طردوا مع المسلمين من الأندلس قبل قرون، واستقبلتهم الدولة العثمانية في ولاية سالونيك اليونانية، ولم تعلم حينها أن أحدهم سيهدم صرح الخلافة عام 1923، ويعلن علمانية الدولة في تركيا.
أما مسجد "أيا صوفيا" رمز انتصار الإسلام في أوروبا منذ عهد الفاتح، فلم يرق لأتاتورك أن يسمع صوت الآذان يلهج بذكر الله ورسوله، فقرر أن يحوله إلى متحف، بعد أن منع الآذان وإقامة الصلاة في مساجد تركيا خلال حياته، وبعد وفاته ظل الاتحاد الأوروبي يشترط على تركيا أن يبقى "أيا صوفيا" مجرد متحف مقفل فى وجه المصلين، والاعتراف بمذابح الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى مقابل الحصول على عضويته.
بالأمس احتشد آلاف الأتراك على أبواب "أيا صوفيا" مرددين "أكسروا السلاسل.. افتحوا آيا صوفيا"، وذكرت وكالات الأنباء أنه من المنتظر أن يقود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مسيرة تضم مليون شخص للاحتفال بذكرى فتح القسطنطينية أمام "آيا صوفيا".
ويسعى أردوغان الذي يروق له اسم "السلطان" إلى إحياء المجد الضائع للسلاطين العثمانيين، معتبرا أن حزبه قادر على إحياء الخلافة الإسلامية من خلال نظريات حزبه الإسلامي "العدالة والتنمية"، ولكنه يهدر مساعيه دائما في هذه المناسبات من خلال مهاجمته للمعارضة، أو فرض نفسه وحزبه كقوة إقليمية من خلال تدخلاته السافرة للشئون الداخلية لدول الشرق الأوسط، وسط اتهامات له بمساعدة بعض التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق.