تمثل ظاهرة الفنان القناوى الشاب أحمد الأسد، مدرس الرسم بإحدى المدارس الخاصة، تجربة فريدة، فالظاهرة الفنية التى بدأت من خلال مبادرة «الفن يحارب كورونا» بقرية «المخادمة» فى محافظة قنا بصعيد مصر، قامت على الاستعانة بأساطير الصعيد وحكاياته فى تزيين جدران قراها ومدنها.
موضوعات مقترحة
كما جسدت روح قرية «المخادمة» القديمة، التى تحولت لـ«ناحية الجبل» بعد تأسيس خزان أسوان، وشهدت تشييد منازل بعيدة عن نهر النيل فى 1890م، واليوم باتت «المخادمة» نموذجا تتطلع إليه باقى «قنا»، حيث إن «الفن يحارب كورونا» صارت مطلوبة فى جميع قرى ونجوع المحافظة.
فالمنازل الطينية القديمة فى «المخادمة»، التى هجرها سكانها وارتحلوا إلى محافظات أخرى، كانت قد تحولت لمقالب قمامة، لكنها نالت فرصة حياة جديدة، وتحولت بمجهود «الأسد» إلى لوحات تحتفى بتراث وثقافة الصعيد وحكاياته المبهجة والغامضة. ووفقا لتصريحاته لـ«الأهرام»، يقول «الأسد»: «الفكرة منبعها والدى الذى شجعنى على استغلال موهبتى فى الرسم خلال أيام الحظر».
وفى رحلته الفنية، تعرف الرسام الشاب على الأشكال المختلفة لبيوت الصعيد القديمة، التى بنيت بأدوات مختلفة، منها الطين والقش، حيث كانت «المخمرة» يوضع فيها التبن، وقبل الانتهاء من البناء تركب له الواجهة الخشبية، ليكتمل البيت الخشبى. وكان الفنان القديم يخشى محو تتابع السنوات تاريخ المنزل، فتم ابتكار «حساب الجمل»، الذى يعنى أن المقطع الشعرى، الذى تتزين به جدران المنزل، يشكل أداة فى عملية حسابية دقيقة، لإعطاء التاريخ النهائى الذى شيد فيه المنزل.
فمثلا، عند مطالعة مقطع «يسد الله شر المنية»يتم تطبيق عملية حسابية بمقارنة الحروف الأبجدية بالأرقام الواردة بجدول «حساب الجمل»، فيكون تاريخ هذا المنزل هو 1171هـ، لذا كان على «الأسد» أن يتعامل مع تزيين البيوت بدقة وحرفية، لا ليطمس التاريخ بل ليزينه ويثبته ويجعله باقيا هوية ثقافية لا محو فيه ولا لبس.
ويوضح «الأسد» أن أغلب المنازل التى تضمنها مشروعه كانت ذات واجهات أسمنتية، أما المنازل ذات الواجهات الطينية الخالصة فقد أجبرته على التعامل بحرفية عالية، لعدم قبول الطين الألوان الزيتية، حيث إن الطين كان يقبل الرسومات «الجيرية»، كما هى الحال مع رسومات الحج قديما.
ويحكى الرسام الشاب أنه زين «المغلاق» أو «المفتاح الخشبى للبيت» من خلال منحه الرسومات والأشكال الرسمية التى ارتبطت به، أما الأبواب الخشبية العتيقة فحرص على منحها الألوان المريحة، أما الواجهات فحكى أنه اختار لها رموز الثقافة الصعيدية وحكاياتها وعناصرها الطبيعية مثل قصب السكر ونهر النيل والقباب، لتتحول البيوت إلى مرآة لعوالم الصعيد، بالإضافة إلى الرموز التى تعمق الانتماء الوطنى وأولها «علم مصر».
أما منزل «الحزينة» تحديدا، الواقع فى بداية القرية، الذى كان نقطة انطلاق مشروع «الأسد»، فله قصة ترتبط بإرث الصعيد الذى يطلق على الفتاة التى يموت والدها فى صغرها «الحزينة».
ومنزل «الحزينة» بات مهجورا بعد ترك فاطمة «الحزينة» وأولادها له قبل 50 عاما. ومن حظ «الأسد» أن المنزل مشيد بالطوب المسلح، لذا قرر أن تحمل واجهته ملامح خريطة «المخادمة»، خاصة أن منزل «الحزينة» كان أبعد نقطة تصلها مياه الفيضان حين كانت تبلغ «المخادمة» قبل بناء السد العالى قديما.
ويشير «الأسد» إلى أنه كانت عليه مجالسة عجائز القرية طويلا، كى يعرف أكثر عن الجغرافيا القديمة للقرية، ويقارنها بحاضر جغرافيتها، والتزم بالخريطة القديمة لـ«المخادمة» فى تزيين منزل «الحزينة»، وعلى يديه تحول المنزل للوحة مبهجة، وبات أبعد ما يكون عن الحزن.
أما عن الاستعداد لتنفيذ مشروعه، فيحكى «الأسد» أنه وفر الأدوات الأساسية من ماله الخاص، وقسم القرية قطاعات واضحة، ومع بداية تنفيذ المبادرة وما أشاعته من بهجة، بدأ كل قطاع وشارع فى الدفع بشبابه، لمساعدة «الأسد».
كما قدمت البيوت العامرة الضيافة له ولفريقه، لدعم المشروع المبهج، وشاعت أخبار المبادرة إعلاميا، وكرم أشرف الدوادى، محافظ قنا، أحمد الأسد. ويحكى «الأسد» أن «المخادمة» تعرضت فى السنوات الأخيرة لتطورات بارزة، بعدما توجه أغلب شبابها للعمل فى قطاع البترول، وتحول معمار البيوت لتشبه «الفيلات الحديثة» أكثر، وباتت القرية أشبه بالمدينة، ولكن بقيت المنازل الطينية مهجورة دون سكان، لذا كان عليه كعاشق لمنازل الطين أن يزينها كنوع من حفظ الهوية.
يتذكر «أحمد» طفولته عندما بكى حين هدم منزل جده القديم الذى مازال يحتفظ بأدق تفاصيله وما كان يحويه من طرز معمارية عتيقة. كما يتذكر أنه كانت لديه من الشجاعة أن يذهب للمنازل المهجورة، وينام فيها وحيدا دون خوف رغم الأساطير التى كان يتناقلها أهالى الصعيد عن سكن العفاريت والأشباح فى هذه المنازل. ويؤمن «الأسد» بأن المنازل القديمة مازالت تضم أرواح ساكنيها القدامى وطقوسهم اليومية من فرح وحزن، وهى تحتاج فنانا لاستحضارها ووضعها منظرا فنيا يخلب الأبصار والأرواح.
ويضيف «الأسد»: بعد نجاح مبادرتى، قررت مغادرة القاهرة، التى أعمل بإحدى مدارسها، والاستقرار فى الصعيد، لتعميم المبادرة فى جميع القرى، مطالبا المسئولين بدعم محاولاته لتعزيز هوية وثقافة الصعيد على جدران منازله.
نقلا عن صحيفة الأهرام