هل يمكننا أن نقول إن أدب الرحلة هو نص تداخل الأجناس الأدبية؟ وهل يمكننا أن نستخلص سمات عامة ـ بكل طمأنينة ـ نعممهاعلى كل ما كُتب فى أدب الرحلة؟ هل تداخل الوصف والسرد والكتابة العلمية وتأصيل الظاهرة وظهورهم صعودا.
موضوعات مقترحة
وهبوطا لن يخل بهذه السمات التى تسعى لتأطير تلك التجربة المحلقة بطبيعتها؟ وهل الهدف من الرحلة يؤثر بشكل أو بآخر على طبيعة الكتابة فيها بحيث يعلو صوت وينخفض آخر حتى يصير الإنسان متنا وتصير الرحلة هامشا أحيانا؟ هل رحلة الحياة قد تطغى بتفاصيلها او تلتهم روح الرحلة نفسها باعتبارها الدائرة الأشمل؟ هل يمكن أن تكون الرحلة قالبا فنيا يخفى أنين التهميش هنا أو هناك؟
يصحبنا الكاتب طارق حسان فى رحلة عبر كتابه " مملكة الصحراء البعيدة" الصادرعن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2019 خلال 142 صفحة. يخيم الحزن على بداية الرحلة تمتد ظلاله تصريحا وتلميحا حتى بداية الفصل الثالث، يخفت تدريجيا ثم يعود للظهور، قرار السفر يحمل وجهين؛ الفرار من مكان عمله للبحث عمن يفهمه وتأمين مستقبل الأولاد، الكاتب يترك بشرا ليبحث عن
بشر، الغربة وحدة لكنه يمهد لنفسه بصوت مسموع نشاركه فيها عرض الصحبة التى يعرفها هناك؛ يقول لنا سأكون بخيرفقد تعرف على بعض الشخصيات فى الأمسيات الأدبية وبعض المحافل قد يشكلان أملا فى حوار مع من يفهمه رغم عدم سكنهم فى مكان واحد بالمملكة العربية السعودية.
الحزن شعور مرافق للكاتب فى رحلته سافر به وعاش معه وختم به رحلته، وعنون به أحد فصول كتابه "الحزن يغمرنى ولاأعرف السبب"، لا تجد لكلمة السعادة حضورا فى الكتاب إلا قليلا ظهرت تصريحا حين نزوله من الطائرة إلى أراضى المملكة معبرا عن الفرار من ضغط ما، وأملا فى تجربة جديدة متخيلة ستكشف عنها الأيام.
فصول الكتاب تسير فى حركة ترددية بين أربعة خطوط؛ الحاضر والماضي القريب، الحاضر والماضى البعيد، الماضى البعيد والمستقبل، الحاضر والماضى القريب والماضى البعيد.
بعضها متعلق بمحاولة تأصيل فكرة ما عبر العصور، وثان يقارن خفية بين ماضينا وحاضرنا فى مصر وفى المملكة، وثالث يبحث عن جذور جديدة ربما استطاع أن ينمو إلى جوارها.
التجربة الفردية والتأمل والاكتشاف عوامل تمنح كل رحلة خصوصيتها لا المكان وحده ـ الذى استهلك وصفا بحسب الكاتب ـ فأدب الرحلة سيرة مسافر للمكان، هذه السيرة تعكس رؤيته بحسب ماضيه وحاضره، ومن ثم تنعكس على سمات كتابته وينشأ التباين بين تجربة وأخرى الذى يصعب معه استخلاص سمات عامة لأدب الرحلة، فخصوصية التجربة هى ما تمنحنا استراتيجيات متباينة
لكتابة الرحلة وقراءتها.
البحث عن أصول المكان وتاريخه بعد قرار السفر وأثناءه يشبه فى ظنى البحث عن الجذور لاكتشاف عوامل مشتركة تسهم فى توطيد صحة القراروبث الطمأنينة فى نفس المغترب أمام شعور القلق الناجم عن عدم المعرفة، تزامنا مع إدراكنا أن الإنسانية لها ميراث مشترك أو متشابه عبر العصور، فالأراضى الحجازية ظهرت أهميتها الاقتصادية بعد ظهور الإسلام أما أهميتها الجغرافية فقد التفت إليها عدد من المستشرقين مثل لويس بيلى، جوزيف بتس وغيرهم.
الظهران والدمام والإحساء مرتكزات رحلة الكاتب؛ فالظهران عنون بها أحد فصول كتابه واصفا المدينة أنها " امرأة تختزن الكنوز لأبنائها "، تلك المدينة التى أعتبرها المدينة الأم ، فهى حائط صد المملكة أثناء حرب العراق، ومقر القاعدة العسكرية، وأكبر شركات البترول وصناعة البتروكيماويات، تلك المدينة التى يراها الكاتب مأمنا لأهل المملكة بوصفها الأم وأراها مطمعا للخارج لكل ما وصفه فيها اقتصاديا، الظهران ـ فى رأى الكاتب ـ لم تخط بالكتابة عنها فى الروايات مثل تبوك ونجران.
الدمام صاحبة الوجه المتناقض، تضم ملامح الفقر والغنى جنبا إلى جنب من البشرإلى موديلات السيارات والتباين الواضح فى استخدام الشبكات الإلكترونية، وهى العاصمة الإدراية للمنطقة الشرقية، أغلب العمالة فيها من الأفغان وأهل باكستان وملمحها الرئيس الأسواق المكيفة ، تقدم موديلات السيارات الدفع الرباعى كان قرينا لظهور لعبة " التفحيط " التى أظهر الكاتب قلقه من خطورتها.
شواطىء الدمام استدعت استدعت الاسكندرية لذهن الكاتب بتاريخها العريق من العصر البطلمى ونضالها ضد المستعمرين على اختلافهم ، الكاتب يستدعى محبوبة أحبها ولم تحبه هى الإسكندرية ومحبوبة جديدة هى الدمام ، رؤية جسر الملك فهد تستدعى ذكرياته، فيهرب من لحظة الحنين لماض بعيد يؤرخ لمعرفة العرب الجسورمن عام 1150 ق.م فوق نهر الفرات بطول 200 متر
الذى أسس من الخشب والحجر.
تأتي الإحساء حيث البساطة والفطرة وطبيعة الواحة ذات التاريخ المعمارى والثقافي العريق الذى شغل كتابات بعض المستشرقين فى مواجهة حداثة الدمام، أهل الإحساء علاقتهم وطيدة بالتموروصناعتها وتسوقيها على مدار العام فهى أساس الصناعات اليدوية فيها، تنتشرفى الإحساء الألعاب الشعبية التى لم يلتفت إلى الباحثون تسجيلها بالقدر الكافي، مجمتع مدينة الإحساء محافظ يهتم بالأدب
والشعر، يعقد أسبوعيا صالونات أدبية تسيطر عليه موضوعات محددة بحكم عادات المدينة ورغم ذلك فإن هناك تيارين بالإحساء الحداثة والأصالة ، المقاهى الشعبية فى الإحساء استدعت صورة المقاهى فى مصر تفصيلا واستدعت دورها فى الحياة الأدبية والسياسية.
ثلاتة أماكن كانت مركزا لرحلة الكاتب الظهران والدمام والإحساء، والبشر بينهم متباينون فمنهم المغترب الذى يعمل مقابل الفتات من جنسيات مختلفة، ورؤساء يدفعون وزملاء يعرقلون ويضيقون سعة الحياة ، وأماكن يتسم أهلها بالطيبة والود لكل من يحمل الجنسية المصرية وأمراة سعودية تناضل من أجل الحصول على حريتها واسم الشاعر ياسر الزيات الذى يكرر فى لطف بالغ وإنسانية تحتوى قلق المغترب بالقول والفعل.
أدب الرحلة هو الاسم الأقرب للكاتب ويصنف تحته كتابه معلنا رفضه لما سمى ب " أدب الصحراء ".
الرحلة التى بدأت بالفرار إلى المطار من واقع يرفضه والخوف من أى عرقلة فى الاجراءات تعطله عن الصعود إلى هذا الصندوق الحديدى الذى يشبه الطائر العملاق الذى يحمل الداء والدواء انتهت أيضا بالهرولة فى إنهاء الاجراءات والعودة إلى أرض الوطن والأهل والأصدقاء ، ويدفعنا أن نرجح فكرة أن رحلة الإنسان داخل المكان هى ما تشكل استرتيجية كتاباتها.
الكاتب يهرب من فكرة التهميش هنا وهناك، يهرب من سلطة من لايعى بحثا عمن يحاور وربما يصل يوما إلى قناعة أن الكاتب لا يحيا إلا حرا فمن الصعوبة أن يعمل تحت سلطة أو إدراة تهمشه ، والتهميش موجود فى بلده وفى غيرها، والتهميش مناهض لطبيعته فالكلمة متن حياته.
أدب الرحلة ومتن الإنسانية المهمش