يضم الأرشيف الصحفي لمجلة "مجلتي" الأدبية التي كانت تصدر في ثلاثينيات القرن الماضي بمصر، الكثير من الرحلات التي خاضها الأدباء والصحفيون في أقاليم مصر المختلفة وخاصة في فصول الربيع في الصحراء الغربية، حيث كان الأهالي مجبرين على مواجهة الغبار والطقس السيئ بناطحات الأرض.
موضوعات مقترحة
قرية "باريس" بالواحات التي كان يبلغ عدد سكانها نحو ألفي نسمة كانت محط أنظار الصحفي والأديب حسن إسماعيل الذي خاض رحلة للواحات في عام 1935م بالقطار الذهبي، إذ يقول "كانت الساعة العشرين حينما تحرك القطار واتخذ طريق الجنوب فلم أشاهد مآذن القاهرة الطويلة وهي تحتفي رويدا رويدا ولم أر قمم الأهرام الشامخة وهي تختفي قليلًَا قليلًا، بل أخذت مكاني وفرشت غطائي واخترق القطار في سكون الليل الجيزة والواسطي وبني سويف ومغاغة والمنيا وملوي وأسيوط وسوهاج وجرجا والبلينا، وكانت أصوات الباعة بمحطات الوقوف كالحلم فأسمع النداء صارخًا يوقظني كعك بيض جرايد سجاير قهوة ليمون حتى يأذن القطار بالمسير، وهكذا إلى أن انحدر برقع الليل عن وجه الصباح وقد كانت الساعة الرابعة والربع حينما وقف القطار دقائق قليلة بمحطة صغيرة وهي محطة المواصلة هنا تركت هذا القطار لأخذ قطار الواحات الذهبي".
وقطار الواحات الذهبي مركب من عربة واحدة نصفها للدرجة الأولي والنصف الآخر للدرجة الثانية، ومن عربتين للدرجة الثالثة وعربتين للبضاعة وعربتين للماء وللعربات سلم مستطيل كسلم عربات الترام وزجاج النوافذ قاتم حتى لا يبهر وهج الشمس ونور الصحراء عيون الناظرين ولا يقوم هذا القطار سوى مرتين كل أسبوع للسفر إلى الخارجة صباح الأحد والأربعاء والعودة الجمعة والثلاثاء، والأجر من القاهرة إلى الواحات 150 قرشًا للدرجة الثانية وسار القطار حتى بلغ بعد ربع ساعة محطة الكارة حيث وقف زهاء الساعة تناول في أثنائها الركاب طعام الإفطار بالفندق الصغير المقام بجوار المحطة ثم استأنف القطار طريقه متيامنا متيسرا وسط الصحراء، وأشرقت الشمس وأرسلت اشعتها علي الرمال الصفراء فجعلتها ذهبا مموجا واشتدت أشعة الشمس وزادت سرعة القطار وظهر لنا السراب عن بعد كأنه مياه المحيط واختلفت المناظر التي اعتدنا عليها في وادي النيل فلا ماء ولا خضرة ولا إنسان ولا حيوان بل مساحات شاسعة خضرية وأخرى رملية أو طفلية وقاربنا وادي البطيخ وهو عظيم الاتساع وسمي بوادي البطيخ لكثرة مابه من الصخور الكروية سوداء أو رمادية منتشرة بالوادي كأنها البطيخ ثم وصلنا الرفوف وهي منطقة صخرية يمشي بها القطار الهوينا صاعدا ومنحدرا وهكذا مسافات شاسعة حتي بلغنا المحاريق وكلنا نذكرها منفي.
وأضاف حسن أنه "في أشهر معلومة تهب علي باريس بالواحات رياح الصحراء المحملة بالرمال " الرياح الخماسينية "فتسقطها علي مايواجهها من النخيل والمنازل حتي تكاد تردمها فيعمد الأهلون إلي تعلية البناء طابق آخر فوق الأول حتي يظهر علي سطح الأرض فلا يلبث أن يردم هذا الطابق بناء آخر فيعمدون إلي تعليته البناء فنجد أن المنازل ولا يعلو علي سطح الأرض مترا واحدا مكون من طابقين أو ثلاثة فكان علينا أن نسمى هذا بناطحات الأرض، وأضاف أن الباريسيات لا يغادرن منزلهن إلا قليلا إلي العيون لجلب الماء أو إلي الحقول لإحضار الغذاء ومازال دم العصور القديمة يسري في عروقهن ظاهرا في وجناتهن.
أما عمدة باريس هو الشيخ محمد سلطان في الحلقة الثالثة من عمره طويل القامة أسمر اللون مفتول العضلات يلبس الملابس البلدية من جبة وعمامة وقفطان لا يألو جهدا في تنظيم باريس ويؤم باريس في فصل الشتاء الكثير من السائحين الأجانب وبها مدرسة بها خمس وسبعون طالبة وخمسة وتسعون طالبا فتدرس الطالبات الإناث في الصباح حيث يكون البنون في الحقول وبعد الظهر يدرس البنون وأهالي باريس مطمئنون فلا حقد ولا ضغائن ولا حوادث ولا جرائم وقوة البوليس حكمدار واحد برتبة شاويش واثنان من العساكر وأربعة من الخفراء ودليل واحد ويزورها محافظ الصحراء مرة كل شهر والقاضي مرة كل 3 شهور والطبيب مرة كل أسبوع.
مجلة "مجلتي" الأدبية مجلة "مجلتي" الأدبية