نعم، اللغة في عرفنا وجاهة اجتماعية، ذلك أن اللغة لا تتحقق إلا في سياق تفاعل المجتمع، وبها يتقوم الفرد في علاقته بالآخرين من حوله، وعلى قدر ارتفاع مستوى لغته والتزامها بأصول البلاغة الاجتماعية في معرفة ما يقال ومتى وكيف، على قدر ما يتم تصنيف الفرد في المراتب الاجتماعية لدينا.
موضوعات مقترحة
إن مستوى استخدام اللغة في نتاجه العام (الخطاب) الذي يدل على المتحدث/ المرسل، المتفاعل مع مجتمع، سيصدر حكمًا على المستوى الاجتماعي لهذا المتحدث من خلال استخدامه للغة، ولذا فإن البلاغة العربية جميعها لا يمكن فهمها إلا في سياق اجتماعي، وهي خارج هذا المجتمع لا وجود لها، بل إنها إذا غادرت هذا المجتمع إلى مجتمع جديد فلا وجود لها أيضًا إلا في أقل القليل، وإلا فما الذي يتبقى من بلاغة النص العربي ـ مثلاـ عند ترجمته إلى لغة مجتمع آخر بما فيها من أبعاد ثقافية ضاربة بجذورها في القدم؟.
وإذا كانت اللغة بمستوياتها البلاغية فعلاً اجتماعيًا، فالأولى بالمستويات الأدنى للبلاغة والتي تصل إلى حد الاستخدام اليومي، أن تكون فعلاً اجتماعيًا متأصلاً هي الأخرى.
اللغة خطاب، والخطاب مركب متداخل من عناصر ينتمي بعضها للديني، وبعضها للموروث الشعبي، وبعضها للحمولة الثقافية المتشعبة للغة ذاتها عبر نموها وتطورها، بما جعل الكلمة الآن في أي لغة تمثل مركبا ثقافيا قابلا للدخول في نمط بفعل التركيب وإضافة دوال أخرى تمثل في إجمالها نصا من نصوص الخطاب الثقافي.
اللغة إذا ثقافة، والثقافة مستويات، والمستويات تصنيف عرفي ارتضاه المجتمع، أيًا كانت طبيعتة (مجتمع الأطباء، المهندسين، الأدباء، الفلاحين، أصحاب الصنعة الواحدة، أصحاب كل تخصص معرفي...إلخ).
إننا على الرغم من طول عمر ثقافتنا العربية فإننا لم نستطع بفعل اللغة أن نقارب بين فكرنا وقضايانا وأوضاعنا، وتكوين صورة واضحة عن ذواتنا الفردية والجمعية.
لماذا؟
لأننا ما زلنا في صراع مستويين من مستويات اللغة، هما الفصحى والعامية، وبالتالي نشأ نوعان أساسيان من أنواع المجتمع:
مجتمع العلم والمعرفة على اختلاف شرائحه وتخصصاته وحقوله ومجتمعاته، وتجمعه بنية ثقافية تتشابه في مرتكزاتها ومستويات استخدامها للغة، وتقاطعاتها الثقافية في ذهن حاملها، وغالبا ما يستخدم اللغة الفصيحة، أو الفصحى الميسرة التي لا تخلو من استخدام مصطلحي متخصص، وهذا المصطلح في ذاته تواجهه مشكلات عدم التحديد الدقيق لمفاهيمه وتعريفاته مقارنة بما حدث في ثقافات أخرى عديدة استطاعت الضبط المنهجي عبر معاجم وقواميس خاصة، تخلو ثقافتنا العربية منها.
ثم يأتي مجتمع التداول اليومي، والذي يستخدم اللغة للتواصل وقضاء الحاجات المادية والنفسية، وبها يعبر عن نفسه وحبه وكرهه وفرحه وغضبه، ويعيش ويتعايش بها ويحصل على ما يريده من الآخرين.
وكلا المجتمعين خلق مهنه ووظائفه وشهاداته وحيله وألاعيبه وطرق تعامله مع الحياة، وهو في هذا يعرف جيدًا متى وكيف يستخدم اللغة في قضاء احتياجاته وتحقيق أهدافه، ونشأت بالتالي تواضعات لتصنيف أفراده اجتماعيا تبعًا لاستخدامهم مستويات خطاب اللغة داخل حقل التخصص، وتطور ذلك ليصبح معيارًا للحكم بالثقافة من عدمها.
ومع الاحترام الكامل لمفاهيم العقلية العربية عن لغتها، مثل : اللغة سياق، واللغة نظام، واللغة تواصل، واللغة بلاغة... إلخ، فإن هناك بعدا آخر أكثر اتساعا يتمثل في كون اللغة وجاهة اجتماعية، ولها سطوة وسلطة، وكان لها تأثيرها في تحديد مسارات العقلية العربية، وفي مفاهيمها المغلوطة عن الدين والسياسة والفلسفة والإنسان والمجتمع والكون من حولنا.
تلك الوجاهة الاجتماعية هي التي تجعلنا نعيش حياتين منفصلتين مختلفتين داخل الإنسان العربي وخارجه، وهي التي تجعل الإنسان يتمثل صورة يراها معيارية عندما يوضع في سياق الخطاب مع الجماعة، هذه الصورة تعود في مرجعيتها لطبيعة استخدامه للغة، وكيفية تداوله لها، فمثلا يراعي المتحدث في الموقف الثقافي استخدام "المصطلح" حتى وإن كان المتلقي لا دراية له به، ناهيا عن استخدام مصطلحات غير عربية رغبة في إضفاء الهيبة على ما يقال، وفي هذا الصدد فإن كثيرا من الخطابات عند تحليلها (باستخدام أدوات تحليل المحتوى) يتبين أنها خالية من المضمون.
وفي هذا السياق لايمكن إغفال أن حضارتنا العربية تميزت بكونها حضارة لغوية في الأساس، إذ كانت الكلمة لها الدور الأول في تشكيل ملامح الحياة الاجتماعية، وهو دور لم يزل قائما حتى يومنا هذا، حيث يبدأ الذوق الاجتماعي بالكلمة، وعن طريقها يتم الكشف عن مستوى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها المتحدث، ومستوى ثقافته، والنسق القيمي الذي يتبعه، ويكفي للتدليل مراجعة التراث العربي بدءًا من مقولة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه : "تكلموا تُعرفوا؛ فإن المرء مخبوءٌ تحت لسانه؛ فإذا تكلّم ظهر"، ومقولة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه "إن الرجل يظلّ كبيراً في عيني حتى إذا تكلم ظهرت حقيقته"، وغيرها مما يربط بين لغة الإنسان والنسق الاجتماعي والثقافي الذي ينتمي إليه.
يضاف إلى ذلك جميعه أن لغتنا العربية لغة بيانية، تكثر من استخدام التراكيب البلاغية والأساليب الرفيعة لإرضاء الذوق العام وملاقاة القبول لدى الجماعة، ولها في ذلك طرائق عدة أجملها الجاحظ في تعريفه للبلاغة بأنها "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"؛ أي اختيار الكلمة المناسبة والتركيب المناسب للموقف المناسب، وهذا يعني وجود بدائل عدة يمكن للمتحدث أن يختار من بينها لتتناسب مع السياق الاجتماعي.
ومن المعروف في هذا أن الذوق يمكن اكتسابه من خلال الممارسة والمعايشة الطويلة مع الفنون والآداب المختلفة، فالحس الموسيقى يأتي عبر الاستماع المتكرر لأعمال موسيقية راقية، والحس اللغوي يأتي عبر المعايشة المستمرة لفنون الأدب وأنواعه المختلفة، وهو ما يصل بالمتلقي في نهاية الأمر إلى الاكتساب الإيجابي للذوق والقدرة على إبرازه.
اللغة إذا هي الأساس الذي يجب أن تبدأ منه دراسة هذا المجتمع وتحليل أبعاده، إذ يجب أن يبدأ الدرس من كون اللغة ثقافة وليس من كونها أسبابًا وأوتادًا ومفردات وتراكيب، وأن تبدأ الدراسة من الخارج وليس من الداخل، أي من دراسة المجتمع وطرق استخدامه للغة، ومن كونها وسيلة اجتماعية للتواصل في المقام الأول، وبالتالي هي قابلة للتطور تبعًا لاحتياجات المجتمع وليس اقتصارًا على الاستخدام المعجمي القديم والإصرار على الارتباط به، وإلا فلنرصد حجم التداول اللغوي العربي الآن في علاقته بالمعاجم القديمة حتى على المستويات العلمية وقاعات المحاضرة.