Close ad

د.عصام حسين يكتب: الذاكرة والنسيان والبحث عن الهوية في "كبرياء الموج"

26-1-2018 | 21:22
 دعصام حسين يكتب الذاكرة والنسيان والبحث عن الهوية في كبرياء الموج كبرياء الموج للدكتور عصام حسين

في رواية "كبرياء الموج" للروائية انتصار عبد المنعم، نحن أمام نص مشبع عن آخره بتيمات الفقد والغربة، وكل ما يجعل للحياة معنى، بل من يجعل لوجود الذات مقامًا آمنا تتوازن فيه النفس، نص يستفذ العقل والخيال معًا، اتكأ على الترميز الطويل وعلى الإيهام والاستعواض بمصادقة الحيوانات والطيور والأشجار والنباتات، عوضًا عن البشر، وكلها حيل نفسية اعتمدت عليها الكاتبة في رسم شخصية بطلتها المركزية التي جعلتها بلا اسم مكتفية بوضع لاصقة طبية في معصمها مدون بها اسمها وعنوانها دون أن تفصح عنهما.

موضوعات مقترحة

نص كهذا يدفعك لمواصلة القراءة وافتراض المعاني الموالية فيه، وإدماجها ضمن البيئة التركيبية الأساسية له، معتمدا على بنية الجملة ومجموعة المعارف المخزنة في المخ، ثمة 14فصلًا في 104 صفحات من القطع المتوسط تحمل عناوين (فريسكا- محبة أم اشتهاء - العمة بسيمة-مدرسة الشعب الصباحية-شجرة الزيتون- الطير الجارح -نعناع أخضر - مذاق مختلف -بائع الذرة المشوي -فنجان القهوة -زينب آل زيتون وزينب الهلالية - سيدي عبد الرازق -بئر مسعود - وقفة).

جاءت الفصول الثلاثة عشر الأولى على لسان البطلة تتحدث بضمير المتكلم وكأنها تحكي يومياتها أو سيرتها من ذاكرتها المضغوطة تحت وطأة افتقاد الأحبة والغربة الداخلية والخارجية ،بينما جاء الفصل الأخير على لسان الكاتبة نفسها، لتخبرنا بالمزيد عن بطلتها التي كانت تجاورها في السكن والحياة، ونعلم أنها كانت - أي البطلة- تخاف التكشف النفسي أكثر من التكشف البدني، وأنه تم نقلها لمركز للعلاج النفسي، وأنها كتبت يومياتها لنفسها لتحارب النسيان، وأنها كاتبة قصة وحصلت على جوائز عديدة لكن حلمها يظل هو "بيت الأحلام" الذي زرعت فيه الأشجار بنفسها، وأنها أيضًا لم تذكر في يومياتها التي حصلت عليها الكاتبة ونشرتها في 13فصلًا، لم تذكر كلمة زهايمر مرة واحدة، ولم تذكر إن كان ما تعاني فقدان ذاكرة. فهل كان ذلك حقًا؟

إن المخيخ داخل الجمجمة البشرية يتحكم في حركة الذاكرة تحت قيادة الجهاز العصبي المركزي وخاصة القشرة الدماغية، أي أنه يحتضن الذاكرة الألية الخاصة بالحركة والمنعكسات الشرطية وهي ظاهرة معقدة ومتعددة الجوانب والأنساق، وهي في الوقت نفسه من أخطر الوظائف العصبية، والخطورة تكمن في طبيعة الميكانيزمات والآليات والسيرورات الكافية وراء الذاكرة، وعندما تتمكن المواد الكيميائية والأنشطة الكهروفيسيولوجية من توليد نشاط تذكري له دلالة سيكولوجية وتواصلية بأجهزة عصبية معينة، فانما يتم ذلك عبر السلوك الباطني (بالاسترجاع) أو السلوك الظاهري (بعملية التوظيف التواصلي كالكتابة مثلًا).

فبطلتنا كاتبة، وتكتب يومياتها من الذاكرة، فقامت بتوليدها والإفصاح عنها من السطور الأولى للرواية "أنا وحيدة ضعيفة يا صاحب العباءة الخضراء.. لا حول لي ولا قوة بعد أن تسربت من ذاكرتي الأسماء والمسميات، وتساوى الغياب عندي بالحضور.. نعم وحيدة). وهي بذلك تمهد لدور النسيان الحيوي في الذاكرة، وهو المؤكد أن للنسيان دورًا في توازن الذاكرة، ولولاه لأصبحت جحيمًا لا يطاق، والنسيان نوعان: شعوري وهو متعمد، وظهر جليًا في الفصل الأخير، ولا شعوري غيرمتعمد، وقد شاع ظهوره في فصول الرواية الأولى.

"يخيل إليّ أني سأنسى القلم والورق في يوم ما قبل أن أنسى كيف أشعر بالجوع والعطش، سيبقى معي البحر ذاكرة وحيدة".

فالنسيان هو الظلام للنور، فلا ذاكرة إلا بالحديث عن النسيان، ولا حديث عن النسيان إلا بالرجوع للذاكرة، فالذاكرة كالمطر الذي يتساقط على نهر جاف، فيسترجع كيانه وترجع له الحياة، لكن في الوقت نفسه، إذا زادت الأمطار وتدفقت كثيرًا، فان النهر يخرج عن مجراه، ويتسرب إلى الجدار ويحدث ضررًا. وهذا ما حدث لبطلة الرواية منذ أن استدعت حادث موت جنينها، الذي دفن في مقابر العود بالرياض أثناء غربتها بالسعودية، كانت ذاكرته بيضاء، وكل هويته كانت في سوار بمعصمه الصغير مدون عليه اسم الأم.

تتحرك البطلة في كل الأمكنة وفي معصمها هذا السوار "اللاصقة الطبية"، وهو الإيهام الإبداعي المدون عليه اسمها وعنوانها، وهي لا تعاني شيخوخة مبكرة أو زهايمر، فالبطلة في الأربعين من عمرها، وتمارس الكاتبة لعبة "الذاكرة المراوغة" كما وصفت بها مذكرات البطلة في الفصل الأخير، هذه الذاكرة التي كانت منعكساتها الشرطية كفيلة بإخراجها على هذا النحو المراوغ، وتمارس النسيان بنوعيه لإحداث التوازن في ذاكرتها على نحو يفضي في النهاية لتحديد هويتها النفسية التي تبرر لها وجودها.

فما المنعكسات الشرطية التي فجرت هكذا ذاكرة؟ وهي في الوقت نفسه رحلة بحث عن الهوية، أو إن شئت الدقة قل: توظيفها في عملية تواصلية كالكتابة الإبداعية مثلًا، يضمن للشخصية المركزية أن تستغني عن لاصقتها الطبية، يأتي البحر برمزيته وعنفوانه وصخبه، والنهر بهدوئه وموجه الغادر المتخفي.

"أدركت أن حياتي نهر، ونهايتي بحر، بدأت أخلق لنفسي فرصًا للاختيار كي أعشق الغرق نهرًا أو بحرًا، ظننت أن التعايش مع فكرة التوحد مع الماء نفسه لمنح صورة أكثر رحابة لفعل الغرق ذاته، أدركت أن عبقرية الغرق في النيل تكمن في موجه الغادر المتخفي أسفل قناع الهدوء الذي يسيطر علي مشهده العام، بعكس جرأة الغرق في البحر بصراحته الصاخبة في موجه، والمتجددة زبدا مدًا وجزرًا".

"أمام البحر أشعر برحابة العالم صريحة واضحة أمامي".

وترى نفسها جالسة على ساقي عملاق يرتدي زي ضباط البحر، تعلو كتفيه نجمات تخالها تبرق كلما نظرت إليها. يضع العملاق الكف على كلمات سوداء كبيرة في جريدته اليومية ويشير إلى شفتيه قائلًا: مصر بحر.

على هذا النحو، وبالترميز الطويل للاصقة الطبية للبطلة التي لا نعرف لها اسمًا، والأب الذي لا نعرف له اسمًا أيضًا، وهذا الحب الكبير لدفء العائلة والأحبة منهم، وفي ظل عدم وجود لذاكرة مع رجل تتأبط ذراعه، وهذه المقارنة الرهيبة بين النهر والبحر، وعلى نفس سيرورات السرد، نستطيع أن نستنتج أن عملية البحث عن الهوية تتجاوز ذات الساردة لتكون بحجم وطن بأكمله (مصر ..بحر). فهل تتحدد ومن ثم نتحصل على الهوية من هذا الخليط العام، والجمع بين حضارتين (حضارة النيل وحضارة البحرالمتوسط)؟

أم تظل الهوية "كالعصفور الذي خيروه بين الطيران في قلب الشمس أو الحياة بين مخالب أسد". وهل ستظل أحلام بنات زينب بعيدة المنال رغم أن إحداهن عشقت البحر غرقًا؟

فقدت الروح في الرياض، فالأذان غير الأذان، والطقس غير الطقس، والتلفزيون بالطبع وحتى الزواحف مرعبة ومتعملقة وقبيحة، والأحبة في لمة العائلة بمصر رحلوا (حسن وزينب، والقبطان وبسيمة)، والثورة جعلت "الأسلحة في أيدي الناس أكثر من رغيف الخبز" والدماء سالت.

لم يبق غير بعض الوجوه المفعمة بالحياة في إدكو والطيور والنباتات. "ولؤلؤ مكنون بعيدًا عن يابسة الأرض، وقلوب لا تشعر بجمال الكثبان الرملية التي كانت تزين ساحل مدينتي الممتد بلا قيود على الأبيض المتوسط".

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة