موضوعات مقترحة
بالنظر إلى "النكتة" في بعض دلالتها اللغوية، نجد أنها؛ العلامة الخفية، والمسألة العلمية الدقيقة التي يتوصل إليها بدقة وإنعام فكر، وهي أيضا الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس، وتعني أيضًا من أتى بطرف وطرائف. وهي بذلك تلتقي لغويًا مع طبيعة الشكل التعبيري المنتج، في كونها قصيرة، مؤثرة في النفس، بها الإيحاء الخفي، التي تدعو لإعمال الفكر.
أما مفهوم "النكتة"، فهي مروية شفاهية، مكونة من سلسلة كلمات منتظمة داخل نسق خاص بغرض التأثير على المتلقي وجعله يضحك، على الأقل هكذا تبدو. والنكتة قد تكون قصة قصيرة جدًا أو حادثة واقعية أو وهمية، لا تربط بين أسبابها ونتائجها علاقة منطقية أو متوقعة، مما يترتب على ذلك مفارقة تدعو سامعها إلى الاندهاش والضحك في آن واحد بسبب عنصري المفاجأة والمفارقة.
تتمثل المفاجأة في النتيجة غير المنتظرة من قبل السامع / المتلقي للنتيجة أولًا، وتبدو المفارقة في اشتمالها على غرابة العلاقة بين سبب الحادثة ونتيجتها ثانيًا، وكلا العنصران (المفاجأة والمفارقة) يسبب حالة من الدهشة المقترنة بالمتعة التي يعبر عنها المتلقي بالضحك، وهو تأثير إيجابي.
وبما أننا نستمع إلى النكتة لنضحك أو نرويها لإضحاك الآخرين، فإننا نفيدهم بانشراح صدورهم وانفراج همومهم ولو مؤقتًا. فالنكتة تعبير لا يمكن التحكم في مصدر صناعته ولا ضبط إيقاعه ولا حتى إيقاف رواجه، فهي تلعب على الوتر الأكثر حبًا لدى النفس البشرية وهو الابتسامة والضحك، والنفوس تتوق لمثل هذا اللون في أشد حالات حزنها تفريجًا للهم، وفي حالات سعادتها طلبًا للمزيد.
فلا غرو أن تكون النكتة من الأشكال الأكثر انتشارًا وإبداعًا، لا يختص بها مجتمع دون آخر، ولكن هناك مجتمعات تبرع في إنتاجها وتعدّها خبزًا يوميا لها، وهناك مجتمعات تعدها أقرب للنادرة، وتلك من الخصائص المميزة للشعوب، فكل شعب له شخصيته الجمعية، والفنون المميزة له.
فمن الملاحظ أن النكتة وسيلة تعبير رئيسية، بل هي لسان حال عندما يعاني الفرد / الشعب من الكبت والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهنا تتخذ النكتة شكل محاولة قهر القهر، أو بالأدق مواجهة القهر بالضحك، وهذا ما أكده علم النفس، حيث يرى "سيجموند فرويد 1856-1939 " أن الفكاهة واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، خاصة النكتة، لأنها تصدر في تصوره من آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات.
وتعتمد هذه الآلية على تحويل حالة الضيق أو عدم الشعور بالمتعة إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة أو اللذة. ويميز " فرويد " بين ثلاث خبرات مبهجة للإنسان، وهي النكتة والفكاهة والأمر المضحك.
ويرى أن النكتة أقرب إلى الدعابة اللطيفة أو الذكية، بنفس المعنى المقصود في العربية، ولكن ما يجمع هذه الخبرات هو وجود طاقة نفسية مقتصدة أو جرى توفيرها من الأغراض العادية أو المألوفة، والتي عادة ما تبذل هذه الطاقة من أجل تحقيقها أو إنجازها، وتُبَدد هذه الطاقة الفائضة على هيئة ضحك.
ويربط فرويد استقبال النكتة بمبدأ اللذة الثابت عنده، من خلال المتعة الخاصة بالمضحك Comic الناشئة عن توفير الجهد في التفكير، ومن ثم إنفاقها في الابتسامة.
وتستفيد النكات منها، بعض التكنيكات المعرفية - اللاشعورية خاصة – المتعلقة بتكوين النكتة، مثل الإحلال والإبدال، التكثيف، الاستخدام المتعدد للمادة نفسها، نظام ترتيب مختلف لمكوناتها، استخدام الكلمات نفسها التي تكون زاخرة بالمعنى وأحيانا فارغة منه، بجانب المعاني المجازية والحرفية واللعب بالكلمات.
وفي المجمل، فإن النكتة تسمح للفرد بالتعبير الموجز عن دوافعه واندفاعاته اللاشعورية التي غالبا ما تكون ذات طبيعة عدوانية أو ذات طبيعة جنسية - على حد قول فرويد – والتي عادة ما تكبت في الحياة اليومية العادية. وفي العموم، فإن الفكاهة بمنزلة النشاط الخاص للأنا الأعلى لتخفيف حالة القلق بها.
لقد قرأ فرويد النكتة ضمن رؤيته الخاصة في علم النفس، الذي يرجع الأمور إلى مبادئ عديدة تهم النفس الإنسانية وهي: اللذة، والعدوانية، واللذة الجنسية، وأنها رغبة في تخفيف القلق والتوتر عن الإنسان، وربما يصدق هذا بعض الشيء في مواقف وأشخاص بعينهم، ولكن من الخطأ التعميم مع فن جماهيري يُقدَّم في مواقف الحزن والبهجة، السلام والحرب، الفقر والغنى، ويحرص على الإنصات لها مختلف شرائح الشعب وطبقاته.
ومن هنا، فإن دراسة النكتة لابد أن تكون ضمن سياقاتها المنتَجَة فيه، والمواقف التي تقال فيها، فلا نكتفي بالنص وحده، وإنما ننظر في خلفياته وهوامشه وحوافه وقائليه ومستقبليه، فالنكتة أشبه بالنبتة، يهم المزارع حصد ثمارها، ولكن الباحث لا يعتني بالثمار بقدر اعتنائه بالبيئة التي أنشأتها، والأجواء المحيطة بها، وساعتها سيكون أقدر على فهمها. فدراسة فن النكتة لا تتم في المطلق، وإنما تقرأ ضمن الزمان والمكان والإنسان.
هذا، وتشترك النكتة مع أشكال الخطاب الجماهيري التي ينتجها أبناء الشعب، وتتلاقى مع هذه الأشكال في كون المشترك بينها هو : اعتمادها على البنية اللغوية في الأساس، وأنها خطاب بلاغي آني براجماتي، يتخطى الإخبار إلى الإقناع والتأثير ( وأيضا السخرية والتعليق )، وقد تستعين بأنظمة غير لغوية،سيميوطيقية وإشارية ورمزية وصور وموسيقى، وهي تعبر عن وجه لغوي مختلف، لأنها غالبا تصاغ باللهجة العامية، مبتعدة عن الفصحى الكلاسيكية المستخدمة في الخطابات الرسمية والأدبية والتنظيرية والتي تكون عادة موضعا لسائر الدراسات المعنية بالتحليل البلاغي، في مجتمعات عربية تعاني أزمات متعددة في الحريات، ويحظر فيه الكلام في موضوعات كثيرة على مستوى الخطابات الإعلامية، ولكن يجد الناس متسعا في النكتة وسائر أشكال التعبير غير الرسمي، التي لا يتم تدريسها أو حتى تبنيها، وإنما تُترَك للتفاعل والانتشار بين الناس، خاصة أنها لا تخضع للمراجعة والتنقيح، وإنما تُتَداول كما هي، وقد يزاد عليها.