تتعدد المشاهد الدالة على حال الطالب المصري في التعليم قبل الجامعي، غير أن ثلاثة مشاهد دالة حد الوجع، ترسم صورة مأساوية للمتعلم المصري في الألفية الثالثة، حيث يتطور العالم بسرعة مذهلة ويتغير كل شيء من حوله وتبقى طرائق تعليمه من أطلال الماضي، هي:
موضوعات مقترحة
- المشهد الأول خارجي: عندما تمر بجانب أي مدرسة (ابتدائية – إعدادية) سيصل إلى مسامعك بسهولة معلمة تقرأ بأعلى صوتها، وتلاميذها يرددون وراءها مفردات درس ما، لا هي حاولت أن تغير طريقة عفا عليها الزمن، ولا استفاد تلاميذها مما تردد، بسهولة يمكنك أن تسمع مفردات ( في العربية والإنجليزية خاصة) تقرأها المعلمة خطأ، ويرددها الطلاب كما تقرأها، والنتيجة معلومة للجميع (يمكنك أن توفر عناء المرور وتبحث عن مقاطع فيديو – وما أكثرها – على اليوتيوب ومن أشهرها مقطع مدرسة اللغة الإنجليزية وهي تعلم الأطفال الجمع).
وطريقة التلقين هذه واحدة من الطرائق المعتمدة في التعليم قبل الجامعي من الروضة حتى الثانوية العامة، حيث يلزم المعلمون طلابهم بحفظ قواعد النحو مثلًا، وأصبح معروفًا في قوانين التعليم المصري (غير المكتوبة): طالب الأدبي يعني الطالب القادر على الحفظ، وطالب العلمي يعني الطالب الذي لا يحب الحفظ (لاحظ أن القانون لا يطرح الفهم مقابل الحفظ)، وأعرف طلابا في كليات الآداب ودار العلوم والأزهر يحفظون مقرراتهم من الغلاف إلى الغلاف ( أو من الجلدة إلى الجلدة حسب التعبير الدارج).
- المشهد الثاني داخلي: طالب يسأل أستاذه محاولا فهم نقطة ما في درس ما في مقرر ما، والمدرس يرد بواحد من ثلاثة ردود معلبة وجاهزة، تنطلق من منصة وعيه، بدون تفكير:
- إحفظها كده، وفي الامتحان اكتبها كما حفظتها.
- هذه نقطة ليست موضع سؤال في الامتحان.
- (إنت بتاخد درس عند أي مدرس ويحرضك على أستاذ الفصل).
وهو ما ينتج عنه توقف الطالب عن استكشاف عالمه عبر الوسيلة الأكثر فاعلية في الاستكشاف (السؤال)، فلا المدرس أجابه، ولا قدم له وسيلة يتعرف بها على الإجابة (أن يدله على مصادر المعرفة مثلًا)، ولا رسخ في ذهنه فضيلة الاستكشاف والمعرفة، ولا علّمه فضيلة الحوار تلك التي تتكشف عن نشاط إيجابي لدى طالب يسعى لفهم عالمه، مستخدمًا عقله في محاولة فهم الظواهر، ومانحًا عقله منطقية عمله القائمة على الفهم دون مجرد الحفظ، إنه نشاط سلبي لمدرس، إما هو فاقد لأبسط قواعد التعامل مع عقول طلابه، وإما هو غير مدرك لقيمة دوره، وإما هو نتاج لعملية تعليمية فاسدة لم تؤهله للقيام بدوره، مما يفضي إلى تحقق المعادلة المغلوطة، أو لنقل المعادلة الكارثية واستمرارها: رجاحة عقل الطالب، وتدني عقل المدرس، وتدرك كارثيتها بإدراك منطقية المعادلة: إذا تساوت عقلية الطالب، وعقلية معلمه، فالأمر في صالح الطالب، فما بالنا بارتفاع مستوى عقلية الطالب، في مقابل عقلية المعلم، الذي يصر على أن يتحول الطالب إلى جهاز تسجيل يتلقن ما يسمع بدون تفكير.
- المشهد الثالث: إعلامي: معلم شاب يتصل بأحد البرامج التليفزيونية معلنًا ثورته لأن الوزارة تفرض عليه دورات تدريبية، ولأنه في غنى عنها، ولا يحتاج للتدريب فهو خريج جامعة، ولا يرى أهمية لأي دورات تدريبية، وهو ما يعني فهمه الخاطئ لتطوير الذات، كما يعني جمود عقليته للحد الذي يجعله على يقين من أنه أحاط بالعلم، فاكتفى بما يعرف، وبما سبق له تعلمه.
علينا الإقرار بأن تعليمنا يقوم على مجموعة من المسلمات الخاطئة حد الكارثية، منها:
- حصر عملية التعليم في حشو أكبر قدر من المعلومات، وأن دور المعلم ينحصر في نقل المعلومة من الكتاب إلى دماغ المتعلم .
- أن الكتاب، ومعه المعلم، هما المصدر الوحيد للمعرفة.
- لم نفرق بين التعليم (حيث يعتمد الطالب على معلم هو أحد أركان عملية التعليم، وينحصر في مكان محدد هو المدرسة)، والتعلم (حيث يعتمد المتعلم على نفسه، أو مع جماعة من أقرانه في التعلم، وتتعدد مصطلحاته: التعلم الذاتي - التعلم النشط – التعلم التعاوني، ولا يشترط المدرسة مكانًا للتعلم، وإنما ينفتح العالم كله: البيت - المدرسة – النادي – المسرح – الحديقة، مما يوسع من عملية التعلم ويدعم تحقيق أهدافها، وترسخ في المتعلم ثقته في نفسه، وقدرته على الاعتماد على كل ممكناته في بناء نفسه، ومجتمعه حضاريًّا .
- غياب الوعي بإدراك المساحات الفارقة في التفكير، ومتطلباته بين الأجيال، وبين المراحل التعليمية، فما تتطلبه عملية التعليم والتعلم لدى الطفل تختلف عما تتطلبه العملية نفسها ممن هم أكبر منه في مراحل تعليمية أخرى، وجمعنا الكل في واحد أي الجميع تحت مظلة الحفظ والتلقين.
- تناقض وزارة التربية والتعليم نفسها، حين تجعل المعلم مصدرًا وحيدًا للمعرفة، وفي الوقت نفسه تهمل إعداده أو تأهيله لطرائق التعليم العصرية، وتقبل منه طرائق تقليدية، تقره عليها بالموافقة، أو التزام الصمت أولًا، وطرائق الامتحان التقليدية ثانيًّا ( في الثانوية العامة خاصة )، وتقبل الوزارة (سياسيًّا) استمرار وضع التعليم بطعم الدروس الخصوصية، ذلك الطعم الذى ينفرد ولى الأمر المصري بتذوقه، وكأن الأنظمة السياسية المتعاقبة أدركت تفرد المصري به، فقررت ألا تحرمه منه.
- لقد كان أمام الوزارة فرصة ذهبية (ومازالت) لتطوير المعلم، فحين أعلنت عن تشغيل 30 ألف معلم، كان يتوجب عليها أن تعدهم إعدادًا عصريًّا، تجعل منهم نواة لمعلم يليق بتلميذ الألفية الثالثة، غير أنها لم تفعل في إصرار غريب على بقاء الحال على ماهو عليه.
- إن دائرة جهنمية يدور فيها التعليم، طفل اليوم الذي تمارس عليه المدرسة طرائقها التقليدية هو طالب الجامعة غدًا، ذلك الطالب الضعيف علميًّا، وعقليًّا، وطالب الجامعة الذي مورست عليه أشكال من التعليم (الضار) هو نفسه المعلم بعد غد، وعلى الطالب المصري تدور الدوائر، عبر ما يمكن أن نسميه – دون مبالغة – عملية قتل ممنهج للمتعلمين.