Close ad

زكي نجيب محمود..ما زال يسبقنا بعد 24 عامًا من رحيله

30-9-2017 | 20:04
زكي نجيب محمودما زال يسبقنا بعد  عامًا من رحيلهزكي نجيب محمود
مصطفى طاهر

لأنه ليس لاعب كرة قدم، أو نجمًا سينمائيًا، أو من عمالقة السياسة، نسيه الجميع في ذكرى رحيله عن دنيانا، وسط ازدحام الأحداث وإيقاع الحياة السريع، العقل المصري الذي قلما أنعم علينا الزمان بمثله. كيف استطعنا أن نتجاوز صاحب الفضل الكبير على الثقافة العربية والعقل المصري؟ الفيلسوف د.زكي نجيب محمود، الأديب الموسوعة، الذي مرت ذكرى رحيله الرابعة والعشرون خلال شهر سبتمبر الجاري في تجاهل وصمت مريب من الصحافة المصرية والعربية.

موضوعات مقترحة

ولد العقل المصري النابغ في 1 فبراير 1905م، ورحل عن دنيانا في 8 سبتمبر 1993م، وطوال ما يقرب من تسعة عقود نجح في صناعة ملحمته الخاصة، وربما لا تبدو القيمة العظمى للرجل كمجرد كاتب أكاديمي نابغ أو أستاذ الفلسفة الكبير في كلية الآداب الذي لا ينسى تلاميذه محاضراته أبدًا، لكن معجزة زكي نجيب محمود أنه كان قنطرة حقيقية للفكر نجحت في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ في عبارات أدبية جذابة، نجح من خلالها في فكّ أصعب مسائل الفلسفة وجعلها في متناول قارئ الصحيفة اليومية، واستطاع بكتاباته أن يخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات لتؤدي دورها في حياة الناس بشكل فاعل.

ما يدهش كل غريب على عالم زكي نجيب محمود الواسع، وعند قراءة مقالاته تحديدًا، أنه يبدو كمن كتبها غدًا! فهي ليست مقالات لرجل رحل عن عالمنا قبل ما يقرب من ربع قرن. ينصفه د.خالد منتصر في أحد نصوصه بالوصف العادل قائلًا: "كلما ساد الضباب سماء حياتنا الثقافية، وكلما أحسست بأن الضجيج سيغتال المنطق، وبأن صوت الخرافة صار أعلى من صوت العقل، ألجأ إلى كتب فارس العقل المصري زكى نجيب محمود؛ لكي أفهم أكثر، وأتعلم أكثر، وأطمئن أكثر. وفى الليلة الظلماء يُفتقد البدر".

ما ساعد على نضوج تجربة الفيلسوف المصري هو حياته المليئة بالزخم والترحال منذ سنوات الطفولة الأولى؛ فبعد ولادته في قرية ميت الخولي، دخل الكُتاب في سنوات عمره الأولى ليحفظ شيئًا من القرآن، التحق بعدها بمدرسة "السلطان مصطفى" الأولية بميدان السيدة زينب بالقاهرة بعد انتقال أسرته إلى القاهرة بسبب ظروف عمل والده في مكتب حكومة السودان، قبل أن يضطر للانتقال مرة أخرى إلى السودان حيث عاش هناك لسنوات في مراحل الصبا، قبل أن يعود مرة أخرى إلى القاهرة لاستكمال تعليمه الثانوي.

التحق بعدها بمدرسة المعلمين العليا، وهي المدرسة التي ضمت بين جنباتها من أقطاب مصر عبر التاريخ الكثيرين، منهم: إبراهيم عبد القادر المازني، محمد فريد أبو حديد، محمد شفيق غربال، أحمد زكي، عبد الرحمن شكري، وغيرهم، ليبدأ بعدها رحلته المظفرة مع الفلسفة والدراسة الأكاديمية، فبدأ حياته العملية في العمل بالتدريس حتى عام 1943م، ثم انتقل إلى عاصمة الضباب لندن حيث نجح هناك في الحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعتها العريقة، ليعود بعدها إلى مصر ملتحقًا بهيئة التدريس بقسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة، حيث أمضى باقي حياته الأكاديمية حتى بلوغه سن التقاعد وتحوله إلى أستاذ متفرغ عام 1965م، وخلال تلك الفترة وبعدها انتدب عدة مرات للعمل في وزارة الثقافة، وأستاذًا زائرًا بعدة جامعات أمريكية، حيث عمل هناك أيضًا ملحقًا ثقافيًا بالسفارة المصرية في واشنطن.

وصفه عباس العقاد قائلًا: "إنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو مفكر يصوغ فكره أدبًا، وأديب يجعل من أدبه فلسفة". وربما تحمل كلمات العقاد مفتاحًا أساسيًا لفهم تركيبة عبقري الفلسفة المصري التي تصفها أحد الدراسات الأكاديمية التي ناقشت حياته – والتي ارتكز عليها تعريفه على بوابة المعرفة- بأنها مرت بثلاث مراحل أساسية للتطور، انشغل في أولها - وهي المرحلة التي سبقت سفره إلى أوروبا- بنقد الحياة الاجتماعية في مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التي تعبر عن الجانب التنويري. و تبدو ثمار تلك المرحلة واضحة في الثلاثة كتب التي اشترك في تأليفها مع أحمد أمين، قبل أن يدخل للمرحلة الثانية بعد العودة من أوروبا، وامتدت تلك المرحلة من حياته حتى الستينيات عندما بلغ سن التقاعد الأكاديمي.

ودعا زكي نجيب في تلك الفترة لتغيير سلم القيم إلى النمط الأوروبي، والأخذ بحضارة الغرب بصفتها حضارة العصر، بخاصة مع اشتمالها على الجوانب الإيجابية في مجال العلوم التجريبية والرياضية، وتقدير قيمة العلم والجدية في العمل واحترام الإنسان، وهي القيم التي كانت مهدرة ومفتقدة نسبيًا ذلك الوقت في العالم العربي.

أما المرحلة الثالثة فقد شهدت عودته إلى التراث العربي قارئًا ومنقبًا عن الأفكار الجديدة فيه، بعد أن كان رافضًا له من قبل، و بدأ في البحث عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب، وبين الحدس والعقل، وبين الروح والمادة.

هكذا تعبر مراحل زكي نجيب محمود الثلاث التي تصفها الدراسة عن شخصية الرجل الذي كان يمتلك من الثقة القدر الكافي الذي لا يجعله يقع أسيرًا لأفكاره، فنجح في التطور عبر السنوات والأفكار والمدارس الفكرية، و ليس هناك مشهد دال على ذلك ستصادفه أكثر من اللحظة التي تستمع فيها لحديثه النادر مع الإذاعية نادية صالح في إحدى حلقات البرنامج الإذاعي "زيارة لمكتبة فُلان" من أرشيف الإذاعة المصرية، وهو يحدثنا عن علاقته بالكتاب وكيف تطورت وتغيرت عبر السنوات حتى توطدت كثيرًا في آخر العمر، وأصبحت بمثابة الصديق الوفي الحقيقي الذي لا يفارقك، لتدرك كيف كان عدم التعصب في تناول الأفكار أو الدفاع عنها في حياة زكي نجيب محمود مفتاحًا أساسيًا في نجاح فكر الرجل ونجاح مشروعه في التغيير والتغيُر والنظرية المعاكسة لمنطق المشجع الكروي المتعصب لأفكاره طوال الأربع وعشرين ساعة، الذي نصادفه كثيرًا في حياتنا الثقافية، والذي لن يتغير ولن يغُير مثلما تغيرنا وتطورنا مع كتب وأفكار ومقالات فيلسوف الأدباء الذي كان مؤثرًا في حياة القارئ المصري والعربي لدرجة أنه عندما انتقل إلى الأسرة الثقافية بجريدة "الأهرام" عام 1973م وبدأ في كتابة مقاله الأسبوعي الشهير كل ثلاثاء، كانت خمس صحف عربية من المحيط إلى الخليج تقوم بنشر هذا المقال في يوم صدوره نفسه بجريدة "الأهرام" بالقاهرة.

لذلك لا أستطيع أن أنسى زكي نجيب محمود أبدًا حتى لو نسيه الجميع.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة