Close ad

طيور الجنوب.. خارطة الفُرقة فى بلاد الشمال

29-1-2017 | 12:19
طيور الجنوب خارطة الفُرقة فى بلاد الشمالأرشيفية
منير عتيبة

فى روايتها الأولى "طيور الجنوب" (دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعةالأولى، يوليو 2005م) استطاعت د.أمانى أبو الفضل أن تقدم رواية أفكار من الطراز الأول، دون أن تقع فى فخ الوعظية، وإن كانت المباشرة من السمات الواضحة فى روايتها، وذلك لأنها استطاعت أن تجعل من شخصياتها الرئيسة على الأقل "صلاح/جواد/ليلى" بشرا أحياء من لحم ودم، وليس مجرد أبواق روائية لأفكار معينة كشخصيات "إبراهيم/ ضياء/ الصفوى".

موضوعات مقترحة


تختار الكاتبة مكان الرواية بعناية، أمريكا، حيث بلد الحرية والعدالة، البلد الذى يمكن أن يوجد فيه كل المذاهب والجنسيات، وأن يتعايش الجميع، ويعملوا دون خوف، ودون صدام، فحرية الاعتقاد الدينى والسياسى مكفولة للجميع.. لكننا بالتدريج نكتشف أن هذه الفكرة ما هى إلا وهم كبير، فصلاح المصرى المتدين يسكن فى الطابق الأول من بيت تسكن طابقه العلوى أسرة جواد "أمه وداد وأخته ليلى" وهى أسرة متدينة، يتعارف صلاح وجواد، ويحب كل منهما الآخر كأخوين، أول ما يبحث عنه صلاح فى نيويورك المساجد، فيذهب به جواد إلى شارع به مسجدان، مسجد بلال بن رباح على اليمين، ومسجد أهل السنة والجماعة فى مقابله، يندهش صلاح:"شئ غريب، الحى مترامى الأطراف، وليس فيه مساجد، فلماذا اختار من بنى المسجد الثانى أن يكون ملاصقا للأول"، وتزداد دهشة صلاح عندما يخبره جواد أنه يصلى فى مسجد آخر فى نيوجيرسى "ساعة لتصل إلى مسجدك بينما المسجد هنا على الناصية"!


ببراءة الغريب يبدأ صلاح فى اكتشاف خريطة رهيبة من المذاهب والخلافات.. فمسجد بلال بن رباح الفقير المظهر تابع لجماعة أمة الإسلام، والمسجد الآخر تابع لجماعة أهل السنة والجماعة، وبداخل هذا المسجد يوجد فريقان، فريق يتكون من إبراهيم المصرى (هارب من الجندية) وضياء الباكستانى (من أصول فقيرة ولا يعرف أحد من أين ينفق على دراسته فى الجامعات الأمريكية) وهما متطرفان فى التمسك بالسفاسف والصغائر، وإرهاب من يحاورهما فكريا وحصر الدين داخل المسجد دون أى فعل حياتى وبالذات فى السياسة، والتأكيد على مخالفة الآخرين لهم باعتبار أنهما من الفرقة الناجية، وإثارة المشكلات التى تجاوزها التاريخ كقضية خلق القرآن وكلام الأشاعرة إلخ، أما الفريق الثانى فيمثله الشيخ حسن وهو من غزة، حارب الإسرائيليين مع المقاومة الشعبية فى السويس سنة 1967 تحت قيادة الشيخ حافظ سلامة، يعمل سائقا، يرى أن مساحات الاتفاق مع الآخرين كبيرة مهما تكن هناك من خلافات، كما أن الحوار بين المختلفين ضرورى، شرط أن يكون غرضه البحث عن المشترك، والعمل لأجل خير الجميع، وألا يكون حوارا تبشيريا يحاول كل طرف فيه أن يذيب الآخر ويأخذه فى صفه، هذا بالإضافة إلى هيئة دعم المجتمع المسلم التى أصبح صلاح من أبرز نشطائها فى تثقيف الشباب والأطفال من خلال المعسكرات الرياضية، يحفظهم القرآن ويعلمهم اللغة العربية، والتى يعتبرها زميله فى العمل، وهو تركى الجنسية، من أهم الهيئات التى تخدم الإسلام والمسلمين، ويعتبرها إبراهيم وضياء "بيت الشيطان، ففيها نساء نشطات، وبعض رجال حليقى اللحى، وتقام فيها معارض فنون وحفلات تمثيلية راقية، وإن كانت فى حدود الشرع! والأدهى والأمر أن أمور السياسة تثار هناك".

كما يتعرف صلاح بصبحى المسيحى الأرثوذكسى وزوجته منى، حيث يوصل إليهما رسالة من صديقه منير الذى عاد إلى مصر، ومنير زوج ابنتهما، تكرهه منى لأنه أخذ منها ابنتها وسافر، وتسقط كراهيتها على صلاح منذ الوهلة الأولى، لكن صلاح بطيبته وبراءة نشأته الأسوانية يجذب الزوجين العجوزين إليه، خاصة أنهما صعايدة مثله، وأنهما مغرمان بالشاعر عبد الرحمن الأبنودى مثله، فتكون جلساتهم قراءة فى دواوين الأبنودى باللهجة الصعيدية مما يعطيهم إحساسا خاصا بأنهم لم يغادروا بلادهم، لكن صلاح يكتشف بالتدريج أن المسيحيين ليسوا كتلة واحدة كما كان يظن، فهناك "زكى وابنه ميشيل" اللذان "يسترزقان" من المتاجرة بما يسمونه قضية الأقباط فى مصر، باعتبار أن هناك مخططا إسلاميا تنفذه الحكومة "يهدف إلى التطهير العرقى فى مصر من أهلها الأصليين" لدرجة أنهما يدعيان وجود مذابح لم تحدث لتهييج الرأى العام الأمريكى وحث أمريكا على التدخل العسكرى فى مصر لحماية "الشعب المسيحى"، ويرون أن البابا خائن لأنه يمنع المسيحيين عن الذهاب للقدس ما دامت تحتلها إسرائيل، وفى المقابل نرى "صبحى وميشيل" اللذين يقفان لهما بالمرصاد رغم ضعفهما ويحاولان الصمود فى وجه تيار التطرف هذا.

يكتشف صلاح أن جواد وأسرته من الشيعة، يصاب بصدمة كبيرة لدرجة أنه يقرر الانتقال من المنزل، يشجعه على ذلك ضياء الذى يرى أن "الغريب عن ديننا يظن أن كل من ادعى الإسلام مسلما، لا يعرفون أن تسعة أعشار هذه الأمة هى مفارقة للدين" وأن ذبائح الشيعة "لا تجوز فهم ليسوا حتى من أهل الكتاب" وأنهم "لا يعبدون الله بل يعبدون الأئمة" وأن "الصهيونى عدو مبين ولكن هذا عدو خفى".. يقع صلاح فى حيرة كبيرة، يتجنب جواد وهو يحبه، لكنه لا يعرف ماذا يفعل، يذهب إلى الشيخ حسن فى بيته، يشرح له الموقف، يؤكد له الشيخ حسن أن "عيبنا الدائم هو قلة العلم، فالشيعة ألف فرقة وعقيدة ولكل واحدة حكم، وللنصارى مواقف ولكل منها حكم" وعندما يسأله صلاح بغصة:"هل تتهمهم بالكفر مثل إبراهيم وضياء؟" يجيبه:"أنا لا أكفر والعياذ بالله، فحكم إبراهيم وضياء هو مثل حكمك، لم يفتحوا له كتابا قبله" "ولكن قال لى ضياء إنهم يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان فكيف تحكم؟" "أحكم بالظاهر، لقد نهينا عن شق قلوب الناس".

يعود صلاح إلى البيت فى غير موعده المعتاد فيجد جوادا يجلس فى الحديقة يقرأ القرآن بصوت عذب مقلدا الشيخ الحصرى وليلى بجواره، يبدأ تدريجيا فى التخلص من تأثير إبراهيم وضياء عليه، وتعود مياه صداقته لجواد إلى مجاريها، بل ويذهب مع جواد إلى مسجد الهادى فى نيوجيرسى ليكتشف أن هناك أكثر من فريق، الفريق المعتدل ومنه جواد بزعامة السيد مصطفى أنور اللبنانى الذى تعلم فى العراق وحارب مع المقاومة فى لبنان حتى أصيب فى ساقه، وفريق المتطرفين أصحاب الأفق الضيق والصوت العالى بزعامة الشيخ على الصفوى.

كما يكتشف صلاح وجود لا دينيين من المسيحيين والسنيين والشيعة، ويكتشف وجود الصهاينة الذين يحاربون كل ما له صفة إسلامية، والمتطرفين الأمريكيين الذين يريدون تدمير كل ما هو عربى أو مسلم أو شرقى.

كل هذه الخلافات والمشاعر غير الطيبة تتفجر بعد أحداث 11 سبتمبر، يحاول أحد المتطرفين الأمريكيين الاعتداء على ليلى فى الشارع لولا أن صلاح ينقذها "نجوت هذه المرة أيتها المرأة المحمدية، المرة القادمة لن ينجدك أحد". ويحاول آخرون اقتحام منزل صبحى ومنى وقتلهما، وتتعارك منى مع صبحى متهمة إياه بالتهاون:"أنت السبب يا صبحى، قلت لك أن نعلق الصليب على باب المنزل من أول يوم بدأوا فيه الهجوم على بيوت المسلمين" "..لن أفعل، هم يقلتوننا لأننا عرب، أتريديننى أن أعلق نجمة داود؟".

ما أسهل ما تتفجر ينابيع الخلافات، وينفخ المتطرفون من جميع الجهات فى أبواق الفرقة والقطيعة ليقتلوا أى أمل فى اتفاق أو حب؟ من يصدق أن ينمو الحب فى مثل هذه الأجواء المشحونة الموبوءة؟ وأى حب؟ حب بين صلاح السنى المتدين؟ وبين ليلى الشيعية المتدينة؟ أحب كل منهما الآخر دون أن يسمح لنفسه بالتطلع إلى وجهه، أو المحادثة المنفردة؟

يطلب صلاح من جواد أن يزوجه بليلى، تنقلب الدنيا، جواد يرفض رغم حبه لصلاح، ثم يوافق بعد أيام من الضغط النفسى الذى تمارسه عليه ليلى وأمها، المجتمع كله يقف ضد هذه الزيجة، السنيون والشيعة، لأول مرة يتفق المتطرفون من الجانبين على شئ، الشيخ حسن والسيد مصطفى أنور رغم أنهما لا يجدان بأسا من الزيجة إلا أنهما لا يتدخلان، تثور العاصفة فى كل مكان، يصل الأمر إلى تنظيم مناظرة بين السنة والشيعة بفندق "هوليداى إن"، يقول السيد مصطفى للشيخ الصفوى:"الذى يملكه روبرت كوهين! أراهن على أنه أعطاكم القاعة بلا مقابل، بل دفع لكم مقابل مهزلتكم هذه، سيدعو الصحف ومحطات التلفاز ليشاهدوا المسلمين، ويوقنوا أن ليس لهذه الحضارة الكريهة إلا الإبادة والغزو، وأن ثرواتها خسارة فيها!"، وتكون المناظرة مجرد شتائم متبادلة بين الطرفين، يقول عدنان الطبيب الكويتى رئيس هيئة دعم المجتمع المسلم:"أشعر بالرعب مما حدث، هؤلاء ليسوا شيعة ولا سنة، هؤلاء مأجورون"، وتكون المكافأة أن تعرض "منظمة التعاون الأمريكية الشرق أوسطية تثبيت هذا النشاط فى صورة مناظرة شهرية" كما يقول الشيخ الصفوى "وعينتنا نحن والسنيين خبراء، وخصصت لنا ميزانية ثابتة، سنجوب كل الولايات الأمريكية وسنسافر لأوروبا لعمل المناظرة"!

لكن الكاتبة تدبر مقابلة بين الشيخ حسن والسيد مصطفى، لتدور مناقشة حقيقية بين الطرفين، غرضها البحث عن المشترك، وتوضيح المختلف فيه حتى لا تحوطه أوهام تقف حاجزا عاليا بين الطرفين، وينتهى الحوار البناء باتفاق الرجلين ومعهما صلاح وجواد على إرساء لجنة فى المهجر للتقريب بين أبناء المذهبين، وتعريفهم بالمشترك، وتعليمهم التعامل مع المختلف فيه.

تؤكد الكاتبة أن النظم السياسية فى البلاد العربية والإسلامية، وكذلك فى الغرب، كان لها مصلحة دائمة فى توسيع هوة الخلاف بين أصحاب المذاهب الدينية، وتقوية المتطرفين الجهلاء من كل الفرق، يقول الدكتور عدنان:"يا إلهى! لم أر كراهية تسود القلوب كما هى الآن، عندما صافحت جوادا فى الندوة ثار علىَّ الكويتيون.. لماذا؟ لأنه عراقى! ولم يلحظوا أنه هنا لأنه ضحية النظام نفسه الذى دمر بلدنا! وهو لامه الشيعة لماذا؟ لأنى سنى! ولم يلحظوا أنى أيضا ضحية للنظام نفسه فخالى وابن خالتى أسرى لا نعرف عنهما شيئا فى سجون العراق! إن الذى يدفعنا إلى هذه الكراهية ليس بعربى ولا مسلم بل هو شيطان! لم نعد نعبد الله.. صرنا نعبد الأمراء والزعماء والشيوخ، أضعنا عقيدة التوحيد، كلنا مشركون؛ أشركنا الطوائف والمذاهب وعملاء السوء بالله. نحن نعيد عصر ملوك الطوائف، وليس لهذا العصر إلا نهاية واحدة يعرفها التاريخ جيدا".

رغم الأجواء المشحونة بالكراهية والغضب والتناحر والرفض، يصمم صلاح وليلى على إتمام الزواج، ثم السفر إلى أسوان لقضاء شهر العسل، يستعدان للزفاف، لا أحد من المدعوين يحضر، فيأخذ صلاح عروسه ويذهب بها إلى جسر بروكلين الذى عشقه منذ وطأت قدماه أرض أمريكا..
- منذ عرفت هذا الجسر الساحر وأنا آتى إلى هنا فى طريق عودتى من العمل كل يوم لأشهد الغروب.. كنت دائما أتخيلك معى
- لهذا لم تكن تأتى قبل العشاء كل يوم
- كنتِ تنتظريننى؟
- من أول يوم سكنت فيه عندنا!

يحدثها عن أسوان، النيل، يحلمان بالمستقبل، الأطفال، يضحكان بمرح وقد نسيا كل أحزانهما، نسيا كل ما حولهما من خلافات، نسيا الجو الذى تركاه محتقنا، لكن الكراهية لم تنسهما، شخصان ملثمان ظهرا فجأة، طعنها أحدهما فى رقبتها وترك السكين مغروزا فيها، واختفيا بسرعة البرق.
لم يكن هذا غير متوقع، فى مثل أجواء الكراهية شديدة الاحتقان التى تسود أمريكا ضد المسلمين بعد 11 سبتمبر، وفى مثل أجواء العداء المذهبى التى ينفخ المتطرفون من الجانبين فى نيرانه، لم يكن يحق لهذين الشابين المتدينين المحبين أن يحلما بعالم يبحث عن المتفق ولا يجرى وراء المختلف فيه ويوسعه، يقربان بالحب ما فرقته الكراهية..

لم يحضر أحد زفاف ليلى، لكن أكثر من ثلاثة آلاف شخص من السنة والشيعة على رأسهما الشيخ حسن والسيد مصطفى حضروا الجنازة، حتى ميشيل جاء يحمل عزاء صبحى لصلاح، وليعزيه نيابة عن الكنيسة فى نيويورك.. وتنتهى الرواية بالجميع يقفون صفا ليصلوا عليها:
"- الله أكبر
وغرق المسجد كله بعدها فى صمت وخشوع عميقين".
هكذا تنتهى الرواية ويبدأ سيل الأفكار والمشاعر والرؤى التى يمكن أن يثيرها عمل أدبى بهذا الثراء، رواية تحثك على التفكير من جديد فى واقعنا المتهرئ، الواقع الذى يسرح فيه العملاء والمتطرفون بأشكالهم المختلفة ليزيدوا من فرقتنا ووهننا، رواية تحثك على البحث عن الجذر المشترك، وإلا ستكون الطامة الكبرى، رواية تودعك وهى تذكرك مرة أخرى بأن "الله أكبر" من كل هذه الفوضى والكراهية والفرقة التى يزرعونها فى العالم.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة