في السادس والعشرين من يوليو الماضي، رحل عن عالمنا واحد من أرباب السينما المصرية والعربية، وأستاذ من أساتذة السينما الواقعية، التي تغيب عن عرف كثير من المخرجين في وقتنا الحالي.
موضوعات مقترحة
"74" عاماً هي رحلة المخرج الراحل محمد خان الدنيوية، قضى أغلبها عاشقاً للفن ومفعماً بقضايا اجتماعية البعد الإنساني فيها يحتل المرتبة الأولي، دائما ما تأتي أفلامه لتحاكي واقعاً اجتماعياً أو وضعاً سياسياً معيشاً، استطاع من خلالها أن يقدم سيمفونية بصرية فريدة، لا يدعي الانتماء إلى موجة جديدة ولا إلى أساليب تعبير خاصة ولا يجري وراء أي إبهار خاطف لمجرد الإبهار، لكنه يعيش المعنى بأدق تفاصيله ويتخيل الصورة ويقدمهما في أبهى تقديم.
قبل وفاته بأيام قليلة كان لنا اتصال تليفوني حاولنا خلاله عرض أجزاء لافتة من تاريخه السينمائي ورؤيته حول ما يتم تقديمه علي الشاشات التليفزيونية أو في دور العرض السينمائية.
تعرض "بوابة الأهرام" رسائل "خان" الذي بدا في حديثه معنا كثير الصمت قليل الكلام، فمن الصعب أن تُخرج كل ما يخلد بباله لأنه لا يحب المباشرة في كل شيء حتى في حديثه مع الآخرين، وهو ما انعكس على أدائه الإخراجي حيث كان يرى أن القصة يجب أن تروى بوضوح وتركيز بحيث تصل كل دقائق المعاني وتفاصيل اللقطات إلي حس المتفرج وفكره دون أي بهلوانية أو افتعال، وبدون الإدلاء بأي تفاصيل.
كان "خان" يشرع في التحضير لفيلم جديد "بنات روزا" بطولة الفنانة غادة عادل، لكن تيار الموت حال دون ذلك.
قدّم "خان" للسينما المصرية ما يقرب من 25 فيلما طيلة حياته الفنية التي بدأت مذ ما يقرب من 53 عاماً منذ أنهى دراسته في معهد السينما بإنجلترا وعاد إلى القاهرة ليضع اللبنة الأولى في بناء حياته الفنية بالعمل في الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي التي كان يديرها ساعتها المخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف، وكانت أبرز الأفلام التي قدمها للسينما المصرية "ضربة شمس، الرغبة، الثأر، زوجة رجل مهم، أيام السادات، أحلام هند و كاميليا، مستر كاراتيه، قبل زحمة الصيف" وغيرها من الأفلام التي استطاع خان أن يجسد من خلالها الروح المصرية بكل تجلياتها وتعابيرها.
وعن سر ابتعاد "خان" عن الدراما التليفزيونية، قال إن الإنتاج هو العامل الرئيسي لعدم خوضه عالم الدراما، ويرى أن المسلسلات الرمضانية تحتاج إلى جودة أعلى مما هي عليه الآن والجودة تحتاج إلي إمكانات مادية هائلة وإنتاج ضخم يتناسب والعمل المقدم، فالضغوط المادية قللت من جودة المسلسلات الرمضانية، وليست متعلقة بالمواهب، فالمواهب من ممثل وسيناريست وإخراج كلها متوافرة، بالإضافة إلى عوامل أخرى كانت عائقاً في سلك درب الإخراج الدرامي منها ضيق الوقت وأعمالها المكثفة التي تحتاج إلى العمل لساعات طويلة والظرف العمري الذي لا يتناسب وهذه الضغوط.
وحول تفسيره لضعف المحتوى في بعض الأعمال المقدمة، قال "خان" إن السعي وراء الشهرة لدى الكثير من الفنانين أصبح دافعا يسير وراءه أكبر من تقديم الفن الراقي، بالإضافة إلي وجود ضغوط فنية وحياتية علي الفنانين تقلّل من إبداعهم أمام الكاميرا، فكلما قلّت الضغوط زاد الإبداع وانعكس ذلك على العمل في مجمله.
شارك "خان" في كتابة معظم أعماله التي حظيت بالمشاركة في مهرجانات سينيمائية كبري عربية وعالمية، وحصل علي 20 جائزة، إلا أن فيلمه الأخير "قبل زحمة الصيف" الذي مُنع من المشاركة في مهرجان مسقط السينمائي مؤخراً سبب له إزعاجاً شديداً وقال إنه بمثابة إهانة لتاريخه السينمائي، قائلاً "إلى الآن لا توجد أسباب معلومة لمنع الفيلم من المشاركة".
حصل "خان" باكستاني الأب ومصري الأم، علي الجنسية المصرية في ديسمبر عام 2013 بقرار رئاسي من المستشار عدلي منصور وقتها، بعد مطالبات من خلاله وعدد من الكتاب والنقاد، سلمها له المستشار الإعلامي للرئاسة آنذاك أحمد المسلماني.
وحينما وجهت "بوابة الأهرام" له سؤالاً حول ما إذا كان الحلم تحقق أخيراً، انتفض خان لرفضه لفظ "حلم" فهو يؤكد أن منحه الجنسية المصرية "حق" أصيل له تأخر كثيراً وعاد إليه مؤخراً، فهذه بلاده ولد فيها وعاش فيها وعايش أهلها وعمل بها ويتكلم لغتها في حين أنه لم يتعلم لغة بلد أبيه "الباكستانية".
ورغم أن "خان" أخرج عدداً كبيراً من الأفلام فإن فيلم "أحلام هند وكاميليا" بطولة أحمد زكي ونجلاء فتحي وعايدة رياض، يظل القريب من قلبه رغم مرور "28 عاماً" على إنتاجه، ويري أن أحمد زكي حالة خاصة فريدة من الصعب تكرارها، فكان أكثر التزاماً ومعايشةً للدور الذي يؤديه، أما الالتزام هذه الأيام فقد غاب عن الكثير من الفنانين، وهو من العوامل المؤثرة سلبيا على الإبداع.
وبحسب "خان" فإنه مهما كثفت الأعمال الدرامية، فذلك لن يؤثر على السينما فهي ستظل موجودة للأبد، فهي لها معايير مختلفة عن الدراما حيث تعتمد على نجوم الشباك ومدي تدفق الجماهير للفيلم، أما شاشة التليفزيون فتحتاج لنجوم فقط حتى تجذب المشاهد، وهذا هو سر اتجاه عدد لا بأس منه من الفنانين إلى الدراما، فالفنان عادل إمام مثلاً فيلمه الآن لن يكون له صديً كبير مثلما كان قبل 10 سنوات، بالإضافة إلي أنها قلّلت من البطولة الفردية ولم تعتمد علي النجومية فقط.
كما أن العامل المشترك بين السينما والدراما الآن يظل عدم العمق في مناقشة قضايا اجتماعية أو سياسية أو دينية، بحسب خان، الذي يري أن عادل إمام فنان متنوع لكنه ليس زعيماً في السينما أو الدراما فقط علي المسرح.
ورغم أنه أخرج أفلاما رآها نقاد بأنها جزء من كلاسيكيات السينما المصرية وناقشت قضايا مهمة تقترب من أوجاع المواطنين مثل "زوجة رجل مهم" و"خرج ولم يعد" و"مشوار عمر" و"أحلام هند وكاميليا" و"أيام السادات" وغيرها، إلا أن خان يرفض التعليق علي أي حدث سياسي من خلال وسائل الإعلام لأنه لا يحب المباشرة في الحديث عن السياسية فقط يحب أن تظهر في أعماله.
حياته الاجتماعية سر إبداعه، فقد نشأ علي الحرية وترعرع في ظلالها فلم يكن لأبيه "التاجر" أي تأثير علي قرار يتعلق بمستقبله، حتي بعدما سافر إلي لندن لدراسة الهندسة المعمارية وتركها ليدرس السينما، فلم يجبره أبوه علي فعل ما لم يرد، هكذا يقول "خان"، المتزوج من وسام سليمان كاتبة السيناريو لفيلميه "بنات وسط البلد" و"في شقة مصر الجديدة"، وابنته الوحيدة المخرجة السينمائية نادين خان، التي لم تلق دعماً من أبيها الذي يري أنه لا محسوبية في الإبداع.
"العالمية" في عُرف خان "مرض" و"وهم كبير"، فما يشغل باله فقط المحلية بمفهومها من خلال إشباع رغبات الجمهور العربي -المُسوق الحقيقي- للفيلم وليس غيره، فالعالمية بحسبه تسويق لبلد الإنتاج وربما لها عوامل جذب أخري من خلال إظهار الجوانب الإيجابية لبلد ما، لكن المضمون يحب أن يركز علي حقيقة الوضع الذي يعيشه المواطن العربي والبيئة المحيطة له من كل زواياها.