توقفت مؤخرًا أمام كتاب "هنا يكمن الفراغ" لديريك والكوت، الصادر في دمشق عن دار التكوين، بترجمة وتقديم غريب إسكندر.
موضوعات مقترحة
ثمة متعة حقيقية ومحسوسة في قراءة والكوت، وتقفّي مهارته في التلميح، واستخدامه لاستعارات قوية لها مدلولاتها الاجتماعية والأدبية لتكريس الهدف الأسمى للشعر بقصد إحياء الماضي في الحاضر بلغة تنمو بجمالية مديدة لتستحوذ على القارئ بكل ما تختزنه من ذاكرة شعرية لا يخفت فيها صوت الزمن الدّال على علاقة والكوت القوية بأسلافه. معظم القصائد التي ترجمها غريب إسكندر هي من مجموعة والكوت الأخيرة "البلشون الأبيض" الفائزة بجائزة ت. س. إليوت 2010.
كتب والكوت أكثر من اثنتين وعشرين مجموعة شعرية. ببراعة كان يوائم في قصائده بين السرد والحكمة والصور الحيّة في مقاطع تتصل لتنفصل بأسلوب أخّاذ وعصيّ على التقليد، وبلغةٍ نستشفّ منها الكثير من شكسبير والإنجيل؛ لغة تسللت إليه من قراءات طالما سحرته بها أمه الممثلة التي جرّته للكتابة للمسرح في عمرٍ صغير.
لا يسعنا ونحن نقرأ والكوت سوى أن نعترف بمقدرته على الإدهاش باستعارات وصور تتوالد بسلاسة في لغة تجرّب كل شيء كي تبقى نديّة وطازجة. هي تجربة شعرية وإنسانية عكست كل ما تركه هذا العالم من تغضّنات على ملامحه، ولكن هل والكوت الذي ظلّ يجهد لرعاية الشغف الشعري داخله لجزيرته سانت لوشيا، هل حقيقة عاش واختبر ما يكفي لكتابة هذا الشعر الحاذق والأخّاذ؟
لا شك في أن مهارته في تتبع العلامات والإشارات تارة عابراً للزمن وتارة أخرى ضده، متمسّكاً بعمر لم يجف نسغه بعد، بل ما زال يهبه تلك اللغة الصافية التي تكاد تجعل من هذا الشعر لعنة حقيقية.
"هذا الشعر جزء من الفراغ
كوادي سانتا كروز
بركته صادقة مثل لعنة حقيقية"
إنه والكوت المتصالح مع العالم ومن حوله بكائناته وأساطيره وطبيعته. بعينين متعبتين يرمق طيور البلشون المتشامخة بأجنحتها الخافقة وهي تعود مع المطر بأرواحها الساروفية ورؤوسها الجارحة.
"أشترك معها في غريزة واحدة
هي التغذية النهمة لمنقار قلمي"
ها هو يرهف السمع إلى أصوات الحياة من حوله، ويضبط انفعالاته مستعيناً بذاكرة انتقائية وقلقة ولكن حاجته الماسّة إلى الطمأنينة وعذوبته الشعرية اجتمعتا معا من أجل إعادة تركيب الواقع بصور تتآلف وتتنافر في فراغ يسمح لكل كائناته بأن تتنفّس بحرية وأناقة. هو لا يتوسّل الخلود ولا الخلاص، هو فقط يستعيد الماضي كي تهدأ روحه بلغة جزلة وبناء قوي مظْهراً لنا قوة التصاقه بجزيرته ـــ وطنه، سانت لوشيا على البحر الكاريبي.
" سانتا لوشيا
شفيعة النخيل والصنوبر
يا من كانت أبجديتها من سنونوات سيراكيوز"
ما الذي كشفه له ضوء الظهيرة الأخير؟ أهي تلك الفجاجة التي ظهرت في وقت متأخر جداً من العمر؟
ها هو بضوء الثمانين الغامض، يُشير إلى أنه شاعر مسنّ ووحيد، ولكن أفكاره ما زالت بيضاء وندية. حينما يقرأ في مفكرة العام الماضي أسماء الأصدقاء الذين رحلوا يتنهّد كما الأطلس عميقاً لذكراهم وهو ينظر بأسى إلى الغيوم التي تبتعد بحوافها الممزّقة، وإلى جدران البلدات وساحل الأدرياتيكي المقضوم.
" رجل عجوز يجلس على مقعد
لا تحمل الأمواج إليه أية أنباء"
أكثر ما يؤلم الشاعر ويُكدّره هو ذلك الإحساس بالعبودية الآتية من دون قيود ومن دون حتى إراقة الدماء على يد الأثرياء وهم يضعون الخطط لتحويل جزيرته ـــ وطنه إلى مراكز تسوق ومنتجعات.
"وبما أنني صاحب قضية
فسأشارك أعدائي جمال العالم
على رغم أن جشعهم يدمر براءة
جزيرتي الآدمية"
اللافت في شعر والكوت أنه لن يسمح للضجر بأن يتسرّب إليك، فهو سيدخلك معه في شوارع ضيقة سخّمها الزمن، وسيمرّ بك على مطاعم البيتزا لتشمّ رائحة السلمون المدخّن وستستمتع معه بقراءة صحف الصباح قرب البحر حيث سيصمّ أذنيك صراخ الصيادين والحمّالين الأقوياء ومزارعي الحقول، وستصفعك وجوه العمال المسودة، بينما تُلقي نظرة على الكاتدرائيات المضاءة بالشموع بعيداً عن جلبة المعارك مُحاطاً بأسراب البلشون البيضاء، ومن بعيد ستتأملك التلال كحيتان متربصة.
يصور لنا والكوت في المروج الخضراء دهشته وهو يرقب دوران أزهار عبّاد الشمس وقد أسرته بصمتها الذهبي، بينما الوادي سفينة بإمكانها أن تصمد في وجه العاصفة، والغابات موج بحر يتدفق بلا كلل، أمّا النوارس فلن تملّ الاصطفاف كسهام باتجاه المرفأ الواسع. إن تماهيه مع الأماكن والكائنات يجعلنا في حيرة وتششت لدرجة أن القارئ يكاد يشعر أن والكوت هو كل هؤلاء معاً.
تزدحم القصائد بأسماء كثيرة لأشخاص مثل "كونراد، لوركا، فان كوخ، بترارك، هوميروس، سيرفانتس. غالباً ما كان يحلو له أن يخاطب ظلالهم المتنقّلة وهي تجول في ضباب الزمن، بالإضافة إلى أسماء لمدن حديثة وقديمة، ما زالت تتلامع في خاطره، وتحكي تاركة أبوابها مفتوحة على مصراعيها. أسماء لا يمكن إلا أن تدير محرك البحث غوغل لتتعرف إلى تلك المدن والقنوات والهضاب والمروج والممرات البحرية والنهرية التي عبَرها أوالتي كان يرغب بذلك وبشدة.
بالنسبة لوالكوت البحر هو نفسه باستثناء تاريخه، وسيبقى عالقاً به مهما ابتعد عنه.
"على رغم ذلك البعد
ستبقى حكة الرمل لأسابيع عدة
وسيبقى التصاق الأدرياتيكي بظهري
بملحه الأشيب"
مع أن قلب والكوت ممزق إلى أشلاء كزبد البحر، ولكنه يُدرك أن جناحيه سيتلونان عندما يحلق نورس.
-------
- لينا شدود (شاعرة ومترجمة من سوريا).
- "هنا يكمن الفراغ"، ديريك والكوت، دار التكوين، دمشق، 2015، ترجمة وتقديم غريب إسكندر.