عقب ساعات من حصوله على جائزة نوبل للآداب، فى أكتوبر من العام 1988، أعلن كاتبنا العظيم نجيب محفوظ، أنه كان يتمنى لو ذهبت الجائزة لتوفيق الحكيم الذى كان قد توفى قبلها بفترة وجيزة، لأنه الكاتب الرائد الذى بدأ الخطوة الاولى فى بلورة فن الرواية، وقال أيضا: "أشعر بالخجل لأن الجائزة تخطت يحيى حقى"، وفى توقيت متزامن صرح يحيى حقى فى مقابلة مع الإعلامى الشاعر فاروق شوشة، أنه يشعر بالفخر لأنه يعيش عصر نجيب محفوظ، وتكرر هذا المعنى فى مقابلة أقدم زمنيا مع الإعلامية أمانى ناشد.
موضوعات مقترحة
لا تقف عبارات التقدير المتبادل بين الكاتبين العظيمين عند حدود المجاملة، بل تتخطاها إلى معنى أبعد وأهم، متعلق أولا بثقة كل منهما فى إنجازه الأدبى الكبير، وثانيا لأن هناك "خبرة إنسانية"مشتركة صاغت لهذه العلاقة أفقا مختلفا، لا يضع العلاقة المباشرة فى حدود المنافسة أبدا.
نظر يحيى حقى وهو الأكبر عمرا لما يقدمه محفوظ، باعتباره بلورة لمشروع بدأته "المدرسة الحديثة " التى انتمى إليها يحيى حقى فى بداياته، وكانت تسعى ضمن ما تسعى إلى تأسيس متخيل قومى للأدب المصرى، خلال لحظة التحول التى رافقت ثورة 1919، ولأن محفوظ اعتبر نفسه دائما ابنا من أبناء هذه الثورة، وتولى مسئولية التعبير عن خطابها العام فيما أنتجه من نصوص، فإن يحيى حقى نظر إلى إنجازمحفوظ كإنجاز يكمل ما سعى إليه مع كتاب جيله.
وتحفل العلاقة بين الكاتبين بالكثير من المواقف الطريفة، التى حرص حقى على تسجيلها بدأب المؤرخ فى كتابه الرائع "عطر الأحباب" وانظر معى إلى جمال المعنى، الذى جعل حقى يضع محفوظ بين من يشيعون العطر بوصفهم "أحباب"، وفى الكتاب فصل كامل مخصص لمحفوظ وأدبه ولا تخلو صفحة من عبارات إعجاب وتقدير تتخطى الموقف الفنى لتصل إلى الجانب الإنسانى، فقد جمع بين العظيمين فضاء العمل فى مصلحة الفنون عقب تأسيس وزارة الثقافة 1958، وبينما كان حقى رئيسا للمصلحة، انتدب محفوظ من وزارة الأوقاف للعمل بالمؤسسة العامة للسينما، وسجل صاحب "كناسة الدكان" رأيه فى محفوظ كموظف، وكتب:"ليس فى نجيب ذرة من طبائع الموظفين، ليس فى حياته كلها سعى وراء درجة أو علاوة او افتنان ببريق السلطة أو أبهة المنصب، ولا تستغرب إذا قلت لك إنه – مع ذلك - موظف مثالى، لم يحدث له أن تأخر عن الوصول إلى مكتبه دقيقة واحدة، بعد دقة الساعة معلنة الثامنة صباحا، كان هذا دأبه حتى وهو يشغل المنصب الرفيع كمدير عام لمؤسسة دعم السينما، إنه يفعل ذلك لأنه حريص على أداء واجبه وأن يكون قدوة لغيره – بل – وهذه الحقيقة – أن يبعد عن نفسه وجع الدماغ ليتفرغ إلى فنه.
كان يحيى حقى يغتاظ من محفوظ أشد الغيظ، فقد كان يقف إذا وقف ولا يجس إلا إذا جلس حقى، فيقول له معاتبا :"متى تفض هذه السيرة وهذا التزمت وتعاملنى معاملة الأصدقاء؟ يقول حقى:"لم أفلح فى زحزحته عن مسلكه ولو قيد أنملة، وظل هذا دأبه معى حتى فى ندواته الخاصة، ما أكاد أصل حتى يقف ويترك لى مقعده ويتخلى عن الحديث، ولم أدفع مرة ثمن المشروب من جيبى.
ويتابع حقى:"كنت أتمنى أن يهفو هفوة واحدة لأحس أن الكلفة بيننا قد سقطت وبخاصة وهو يرانى أفضى إليه بكل أسرارى".
وبعيدا عن الجوانب الشخصية، كان تقدير يحيى حقى لمحفوظ تقديرا موضوعيا وظل دائما أحد أبرز من ناصروا المشروع الإبداعى لصاحب "الثلاثية"، ويمكن مثلا أن نطالع ما سجله عن تطورات مشروعه فى مقالاته حول أدبه وهى ذائعة الصيت، وربما أهمها "الإستاتيكية والديناميكية فى أدب محفوظ"، ويكفى هنا التوقف فقط أمام العبارات التى تنطوى على أحكام حول القيمة الفنية لأعمال محفوظ، وهو اعتراف مبكر جدا سبق فيه يحيى حقى أغلب من كتبوا عن تلك الأعمال أو تساجلوا حولها، وكان ذلك فى العام 1963 ومن اللافت للنظر أنه دافع عن "أولاد حارتنا"، برغم تحفظ المناخ العام بشأنها منذ أن نشرت لأول مرة فى العام 1959 ومن المثير للتأمل فعلا أن رأى حقى المنشور فى الستينيات، يكاد يطابق ما انتهت إليه لجنة نوبل فى تناول أولاد حارتنا ضمن حيثياتها.
فقد كتب حقى بالنص أن صاحبها حقق بها ما عجز عنه غيره من الكتاب، حقق الأمل فى ارتفاع الأدب عندنا إلى النظرة الشاملة والتفسير الفلسفى الموحد للبشرية جمعا، ووضع تاريخ الإنسان كله فى بوتقة واحدة، فيعلو عما ألفناه إلى حد التخمة من الأدب الواقعى، وصفه فى بداية سلسلة مقالاته التطبيقية عن فن الرواية بأنه "بلغ حد الكمال فى التعبير الفنى" وهو فوق ذلك صديق منا وعلينا" ثم يشبه عمله فى اختيار عناوين أعماله المتعلق بالأماكن، مثل خان الخليلى وبين القصرين وقصر الشوق ثم السكرية، بأنه عمل يشبه ما يقوم به المهندس المعمارى هادئ الأعصاب، والبناء عنده متين متماسك أسسه غائرة فى الأرض مستندة إلى علم وفهم ودراية، بناء لا يخر منه الماء، لامكان فيه للخلل فى النسبة والأبعاد، إنه من صنع "معلم أسطى فى الكار".
ومن الأمور الدالة على الفهم العميق لعالم محفوظ إدراك حقى لهوس الكاتب العظيم بالزمن، كسمة لما سماه النمط الإستاتيكى ثم يصف قدرة محفوظ فى رصد الأجيال فى رواية الثلاثية بأنها "خارقة على المتابعة الزمنية لأنها لا تقتصر على الفرد، بل شملت سلالته جيلا بعد جيل، إنها قصة عظيمة تشبه نهرا عظيما نركبه من منبعه إلى مصبه "معتبرا أن قدرة الكاتب على الاحتفاظ بتماسك البناء المعمارى ومسايرة الزمن طولا وعرضا، وخطوة خطوة تقوم بدور لا غنى عنه لاتزان العمل الفنى ونطق ملامحه الصادقة.
ويمجد حقى اهتمام محفوظ بالتفاصيل بوصفه إمام القصة وأستاذها الأكبر "ويقول:" ليس بيننا أديب يعرف أصول فنه مثل نجيب محفوظ"، وفى موضع آخر، يؤكد أنه خلق المجاوبة الوجدانية بيننا وبين أبطاله".
ليس هذا فقط بل إن يحيى حقى فى غيابه يجيب عن أسئلة الحاضر، وبينما تحدث بعض نقادنا الكبار عما أسموه تخاذل نجيب محفوظ وافتقاره للشجاعة، رأى حقى مبكرا وهو فى معرض تقييم رواية "المرايا"، أن محفوظ يستحق التهنئة على شجاعته الكبيرة.
ويضيف" أن الشجاعة التى أبداها توفيق الحكيم فى سجن العمر، وهو يتحدث عن والديه قد تجاوزها نجيب بمراحل بعيدة، لأنه تحدث عن نفسه وهو ما لم يفعله توفيق هربا من وجع الدماغ، ويشيد بشجاعته فى الحديث عن نفسه وعلاقاته، ويقرر بوضوح:"أنه حين يكتب تاريخ الأدب فى عصرنا الحديث، فلابد أن يقال إن محفوظ يكاد ينفرد من بين أترابه، بأنه هو الذى برهن على هذه الشجاعة الناجمة عن حرصه على أداء واجبه، وهو واجب الفنان نحو وطنه وشعبه، فلم يعتزل ولم يصمت، بل قال ما يريد قوله.
ويضيف: منذ القاهرة الجديدة لم يتخل عن الالتزام واعتناق قضايا الشعب والدفاع عن حقوقه وعن حرية الرأى والكلمة.