Close ad

رحل «راعي المياه» خلسة.. «فتحي عبدالله» في تلويحة حياة وقصائد لم تنشر

8-3-2021 | 19:27
رحل «راعي المياه خلسة «فتحي عبدالله في تلويحة حياة وقصائد لم تنشرفتحي عبدالله
عزمى عبد الوهاب
الأهرام العربي نقلاً عن

رحل الشاعر المصرى فتحى عبدالله «1957-2021» بعد صراع مع المرض، وبعد رحلة إبداعية أسفرت عن ستة دواوين شعرية، وعدد من المقالات النقدية فى الشعر والرواية، وتأسيس مؤتمر قصيدة النثر الذى انعقدت دورتاه فى نقابة الصحفيين المصريين، فى عامى 2009 و2010 وكان فتحى عبدالله فاعلا فى لجنته التحضيرية.

موضوعات مقترحة

ينتمى فتحى عبد الله إلى جيل الثمانينيات الشعرى، حيث تخرج فى كلية دار العلوم فى عام 1982، وسافر إلى العراق لعامين، عمل خلالهما فى إحدى مجلات وزارة الثقافة العراقية، ثم عاد إلى مصر ليعمل فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمجلة القاهرة مع د.غالى شكرى، ثم مديرا لتحرير سلسلة “كتابات جديدة” ثم نائبا لرئيس تحرير مجلة “إبداع” ليحال إلى التقاعد منذ أكثر من سنتين

أصدر فتحى عبد الله أول دواوينه “راعى المياه” وطبقا لإحدى الدراسات النقدية وعنوانها “الشاعر فتحى عبد الله روح إنسانية تفيض بالألم” نشرتها مجلة “نزوى” العمانية للكاتب عبد النبى فرج، فإن فتحى عبد الله فى هذا الديوان انحاز إلى كل ما هو جوهرى إنسانى، وكتب قصيدة تحتفى بالحياة الريفية أو المجتمع الزراعي، بما يحفل به من طقوس حصاد ورى وزراعة وتضامن إنسانى.

جاءت شعرية فتحى عبد الله، كأنها نتاج تأثير المكان، فكان بها قدر عال من انسيابية البناء وبساطة اللغة، وغناها الحسى المستمد من أغانى الفلكلور أو الشعراء الشعبيين، والذين كانوا يلعبون دورا قويا ومؤثرا فى وعى الأجيال السابقة.

ثم خرج منذ ديوانه الثانى “سعادة متأخرة” إلى عالم المدينة بما تحفل به من عنف وقسوة وفقدان للبراءة، يفرضها المجتمع الصناعى الحديث، وبدل أن تصيبه المدينة بنوع من النكوص، اندفع إلى محاولة تدميرها، وجاء الديوان فى مشاهد قصيرة، تتراوح بين الحادة، والناعمة.

فتحى عبد الله - كما يرى فرج - شاعر الهلاوس والأحلام والكوابيس، إنه ابن المدرسة السريالية، التى حررت الشعر من الجمود والتقاليد الكلاسيكية، ومن تعاظم دور العقل فى ظل سطوة مرحلة التنوير، وهذا لا يعنى غياب الذهن تماما فى هذه الشعرية، بل يلعب الذهن دورا حقيقيا فى الإطار، وهل يمكن تصور قصيدة بدون إطار، حتى الإطار لدى الشاعر فضفاض فى كثير من الأحيان، وليس إطارا جامدا، فقصائد كثيرة تتوالد من بعضها، أو تظهر مكملة لها فى منطقة أخرى أو ديوان آخر.
توالت دواوين فتحى عبد الله: “أثر البكاء - موسيقيون لأدوار صغيرة - الرسائل عادة لا تذكر الموتى” وكان فى انتظار طباعة ديوانه “يملأ فمى بالكرز” لدى دار الأدهم للنشر والتوزيع، كما أنه كان يواصل نشر قصائده الجديدة، التى منحها عنوانا هو “للجبل رعاة لا ينامون” على صفحته بالفيسبوك.

نعى الكثيرون من أصدقاء الشاعر غيابه وموته، لكن تظل هذه العبارات للشاعرة ميسون صقر، هى الأكثر تعبيرا عن الشاعر الراحل: ”فتحى عبد الله ظل يخاتل المرض، حتى فاجأه الموت بغتة، وفاجأنا فتحى ابن مرحلة الثمانينيات الشعرية المصرية، وابن قصيدة النثر، المثقف والشاعر، الذى تخفف من كل شىء، ورحل عنا، دون أن يكتنز من الدنيا ومتاعها، أو من الثقافة وجوائزها، أو من الصحافة ومقالاتها، أو من المثقفين وتكتلاتهم، أو من السياسة وتقسيماتها، غير الفتات، ورحل شاعرا ومثقفا يشار إليه بالبنان”.


فى حين وصف الشاعر العراقى “محمد مظلوم” رحيل فتحى عبد الله بالمفجع، قائلا: فتحى مثال حى عن كيف يكون الفرد وهو فى أقصى فردانيته وعزلته مسكونا بروح الجماعة.

وقال: اتصلتُ به قبل بضعة أيام لأحاول أن أشدَّ من عزمه وأقويه فى مرضه، وإذا به يضحك ضحكته المعهودة، ويقول لا تخفْ يا مظلوم أنا بخير، وفى الواقع كان صوته زاخراً بالحيوية والمرح، كما عهدته، رغم أنه كان يحتضر.

عاش فتحى ورحل كما يليق بشاعر مختلف وإنسان حر، صادقته فى العراق فى ثمانينيات القرن الماضى فى حقبة الحرب، وكان هناك ملايين المصريين فى العراق والآلاف باسم فتحي، لكن ثمة فتحى عبد الله واحدا، وعدنا واجتمعنا فى القاهرة خلال زيارتى لها بعد احتلال العراق بقليل.

جاءنى مغموراً بالفرح وغمرنى به، وسحنا لأكثر من أسبوع فى أماكن القاهرة (التى فى خاطرى) منذ نجيب محفوظ ومنذ ذكريتنا فى بغداد، وكأننا نستعيد تلك الأحلام القديمة، ونحن نتسكَّع فى مقاهى وشوارع بغداد، وخلال كل تلك السنوات بين بغداد والقاهرة، ظل فتحى كما عهدته وعرفته، حداثياً فى الشعر وثورياً فى الثقافة، وملتزماً لا يهادن فى الموقف من القضايا العربية والإنسانية.

بينما يكتب الشاعر اليمنى محمد عبد الوهاب الشيبانى: فى الآونة الأخيرة كتب (فتحى عبد الله) مجموعة من النصوص الشعرية الجميلة، التى التمت فى مجموعة سادسة اسماها (يملأ فمى بالكرز) وكتب دراسات نقدية منصفة عن كثير من المجاميع الشعرية الشابة... استحضر مجموعة من أصدقائه الذين أثَّروا فيه.. والأهم نشر مجموعة كبيرة من المقالات الثقافية والسياسية النافذة، كتب بكثرة وشغف حميم وكأنه كان يستعجل رحيله المر.

فى حين يقول القاص حمدان عطية:”جمعتنا صداقة امتدت قرابة العشرين عاما، فنحن جيران بالقرية، لم يكن يظهر كثيرا، إخوته ووالده هم مَنْ كانوا يقومون بفلاحة أرضهم، لكنه لم يحب هذه الأعمال، ولم ينخرط فى أى شيء متعلق بالقرية، يزورها على استحياء، وينفر من العلاقات الريفية الفضفاضة، التى يسودها العشم الزائد وأحيانا التنطع.

كانت خلفيته الثقافية تُضفى على رؤاه بُعدا إنسانيا راقيا، يرى فى إعلاء قيمة الإنسان وعلاقاته أسمى الأهداف، كى تصل به لأعلى درجة من درجات تحرر روحه، فيُخرج ما فى طينته من إبداعات وفيوضات؛ لا يعوقه عائق، يُذكرنى بلوكاتش والحياة فى أعلى صورها كلعب، بعيدا عن تشيؤ الإنسان.

لم يحب العيش فى القرية فله وجهة نظر؛ لكى تكتب جيدا لابد أن تدخل فى علاقات حداثية، وهذا يأتى عبر العيش فى المدينة، والتنقل الدائم، لم يحب نمط الحياة الكلاسيكي، وما تفرضه على المبدع من مسئوليات ومطالب تستهلكه، إنه ابن الهواء الطلق.

تراه وهو فى الستين بروح ابن العشرين، مقبلا على الحياة، يعب منها كأنها نهر متدفق، لن يطول وقوفك أمامه، فهو لا يرى إلا سواها، يميل لرؤية العدم قادما، ليبتلعنا فى حفرته العميقة، كما يقول المسرحى الكبير هارولد بنتر، وليس أمامه سوى تلويحة حياة فى عمر الكون المتدفق.

قصائد من ديوان «يملأ فمى بالكرز»

يأتى لها الطير أسود
أقف على بابها كلَّ ليلةٍ والأزهار قريبةٌ من يدى
وأسمع جيتاراً يعزف الهيبيّون عليه
وقد أخذوا ملابسها وأعطونى قبّعةً كى أزورَ الحانة
وأحدّثَ الأشباح عن أناملها الصغيرة
تزور فى الصباح رأسَه المقطوع
وتبكى حاملَ الأختام الذى نقل الجثة إلى القرن الثالث عشر
وتعطى له النذورَ فى المقهى
وتهربُ فى زحام الناس
إلى أن تسمع هبوط الملاك فى الليلة الأولى
يأخذ أصدقاءه واحداً واحداً
فتخلع صندلَها وتطلب الحشائش
يأتى لها الطير أسود
لا ترفعُ ذراعها
تعرف أنه يزور الحقول
أو يخرج عارياً فى البرارى
وفراشاتٌ من حوله
يمسكُ لحيتَه وينادى فى الأبراج العليا
أم حبيبتى عطر
ولها أكثرُ من كوفيّة
ولا تمنع يدى من الزيارة
وتحب الخشخاشَ فى الجلسات الطويلة
ولا ترى ذراعى إلا على ظهرها
وتضحك من رعشات الأصابع
وتغمض عينيها على التوت الأبيض
الذى ذهب وحده إلى الحشائش النائمة.

الصائد الأبيض

لأيامٍ قليلةٍ تذهب وحدها
وتنسى يدها فى الممرّ أو المقهى
وأمضى بمحرمة الصوف التى ورثتها عن أبى
الطيور على رأسى
والإيقاع نافدٌ بالخلاخيل والطبول
لن ترجع إلا ويدُها على الصارى
أو تقتلَ الصائد الأبيض
فقد هرب من الغابة بأقراطه الطويلة
وضلّل الفتيان الذين يخرجون من المعبد
ووضع لهم زجاجاتِ النبيذ
إما أن تذهبوا إلى الجسر وتحرقوا عرائس القطن
أو تعودوا إلى الأشجار التى تحفظ الدراويش من الموت
فالأمطارُ مازالت على الأبواب
وأمى ترفع ذراعها للملاك
وتذكر القمح فى بكائها الذى لا ينقطع
وقد تأتى لزيارتى وأنا بين جدران كثيرة
أهرب من أشباح حبيبتى على النوافذ أو فى الشوارع
حين يصلون إلى المقهى
ويعطون النادل كوفيّةً بيضاء
ليعدّدَ ارتعاشاتى على أصابعه
ويمدحَ عيونها الزرقاء
بما يكفى للهروب من الفراشات
أو النوم على الباب
حتى تضعَ المفتاح فى حقيبتها الصغيرة.

طائرٌ على السرير (1)

يعزف الذى فقد أبناءه دون أن تطرَف له عين
وأنا أضع يدى على رأس حبيبتى
ولا أعرف من أين جاء الألم
رغم أننى أتبع الزعفران كالحمار الوحشىّ
لا الموسيقى الزرقاءُ تأخذنى إلى الأبراج العالية
ولا أضع فمى على ركبتها
وأهربُ من عاصفةٍ على بابها كلَّ يوم
وقد أعطى لها قميصى
أو الجيتارَ الذى ورثتُه من صديقتى الأولى
بعد أن منعوها من زيارة المقابر
وقالوا خيالُها أبعد من القطارات وأقرب من الموز
ولكى أسمع صفيرَها المليء بالصقور وذبذباتِ الملاكم
وأغوى ورودَها الحمراء فى الليل
لابدّ من وتٍر مقطوع أو زيارةٍ من النافذة
دون أن ألمس النقوش
أو أقتل الطائر الذى على سريرها
فقد وهبتنى نمنماتٍ أذكرُها فى الفيضان الكبير
وأنا نائمٌ دون ألم.


طائر على السرير (٢)
بقفازاتٍ زرقاء
تقبض حبيبتى على صاحب التاج
الذى انصرف إلى أعماله فى الأراضى البور
أو نام على قطيفةٍ حمراء
عليها طائرٌ يذهب وحده ويعود
وإلى أن تدركَ توتَه الأبيض
عليها أن تلقيَ حزام الصوف على المائدة
وتقصَّ الحشائش التى تعلو الملاك
بعد أن أهملَه رجل الصحراء
الذى ورث عن أبيه الخرائطَ والبوصلات
ولم يعرف أثر المحارب فى ضحكاته على المقهى
إلى أن يأخذ النادلُ قبّعته
ويدعوه إلى الحجرة العالية
فيرى خوذةً مقلوبة يخرج منها النور
الذى مدحه (جينسبيرج) فى بكائه المقطوع
على ثقبٍ زاره الله
أصبح بين يومٍ وليلة
مأهولاً بالعطور والمطرودين من الجبال
ولا ينقص حبيبتى إلا تابوتٌ من الكتّان
يأخذها إلى خميرتها الأولى
وينفخُ فى حبلها الممدود
إلى أن يظهرَ حامل الراية
ليسقيَ الورودَ والأزهار.

الساحر الذى قطع ساقه
من أجل الذهب

لا لهاثُها أوصلنى إلى الميناء
ولا أنا تركتُ صاحب التاج على حاله
فذهبنا إلى كهفٍ حوله أشجار
وتذكرنا الساحر الذى قطع ساقه من أجل الذهب
وأنّ نورَه يأتى من صديقٍ يزوره فى البواخر العابرة
دون أن يقطع الدليل
بأنّ الخشخاشَ زائدٌ على الفراش المليء بالمنمنمات
أو يهذى أمام شجرة التين التى احتفظت بها (إيمى)
لتأخذَ الساحر إلى مركبٍ سكران
وتعطى له ملابس فضفاضة
بعد أن ترك فخذيه للتوت الأبيض
أو للفراشات التى تهرب من النيران
دون أن يقبض على الحمام الذى وقف على الصارى
فقد آلمه أنّ حدوةَ الحصان التى وضعها على رأس الخيمة
لم تمنع (إيمي) من زيارة المقتول وتقبيلِ رأسه
بعد أن عرفت أنّ الساحرَ الذى تزوره
قد وزّع الذخيرةَ فى حريرٍ أسود
وذهب إلى فراشه وحيداً.

روحٌ موحشة

أيّها الطيبون
لا تضحكوا من صدرها العارى
أبوها وضع قبّعته على الطاولة
ورفع مسدّسه فى الهواء
الأشجار لا تحفظُ السرّ
وروحُها موحشة
والأشباح تأكل أطرافَها فى الليل
ويحملون العظام فى أجولةٍ بيضاء إلى المخازن
ولا أسمع إلا صوتَ الخشخاش الذى يفركونه على المفارش
فمن يأخذ بيدى إلى الشارع الكبير
الصناديق كلُّها أمام المنزل
وأخلعُ ملابسى بجوار حوائطَ عالية
وأرفع الإشاراتِ الخضراء
فمن يدقُّ على الطبول فى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل
ويخطف الرؤوسَ التى تدهسها القطارات صباحَ مساء
دون أن تنزفَ قطرةٌ واحدة
إنّه صاحبُ الفوضى
أو المجنون
فقد عثر وحده على الذهب
وقتل الحارس الذى يتبعُه من حانةٍ إلى أخرى
ورفع صور الذين هاجروا أو قُتلوا أمام البوابات العالية
ولم يذكر حبيبتى إلا وبكى
دون أن ينظرَ إلى العدسات التى تأخذُه
فى مشهد الوداع.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: