يبدو العمل الأول للكاتب، في كثير من الأحيان، بمثابة ترجمة لجزء من سيرته الذاتية، خاصة وإن كان منتجه الإبداعي الأول رواية، وذلك حين يحمل هذا العمل إجابته "الخاصة" عما يفترض أنه ماهية الحياة، غير أن هناك بين المبدعين من يشذ في كتابه الأول عن تلك القاعدة، حين يقرر طرحه بصفته سؤالاً حول ماهية "القلق"، فتكون الرواية سؤالًا حول ماهية اللغة/الزمن/المعرفة/ الوجود/الحياة، وهذا ما تلفت إليه رواية "موسم الكبك " للروائي المصري الشاب أحمد إبراهيم الشريف.
موضوعات مقترحة
تبرز الرواية، والتي تضمنتها القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الثقافية في فرع الرواية، كسؤال رومانسي ألقاه عابر في خضم حدث جلل، حيث تتصدى لتبعات حادث خاطئ أودى بحياة سائح أجنبي خلال موسم للصيد المحلي في صعيد مصر، عقب فترة زمنية يسيرة من مذبحة الأقصر في التسعينات، وتدور الأحداث حول عبور سفينة لنقل السياح من خلال شباك الصيادين في موسم الكبك -وهو أحد أهم مواسم الصيد في القرية- فتقطعها، فينشب على إثر ذلك عراكًا بين طاقم السفينة والصيادين، حيث يطلق أحدهم عيارًا ناريًا فيودي بحياة أحد السياح على متن السفينة فيقع صريعًا، وفي ظل الغضبة الأمنية على الصعيد، يصبح هذا الحادث كابوسًا يهدد القرية بأكملها، في حين لاتعني الرواية مطلقًا بحجم ذلك الحدث بقدر ماتلتفت إلى أسباب حياة أبطالها الذين ورطهم حظهم العسر في التواجد لحظة وقوعه، أو ورطهم الوجود نفسه في أن يكونوا صعيديون من الأساس.
و"موسم الكبك" بحسب تعريف الراوي العليم، هو: "موسم صيد لايشبه مواسم الصيد الأخرى، موسم ليلي؛ يبدأ قبيل غروب الشمس ولا ينتهي طالما كان الليل قائمًا، يأخذ النيل عرضًا من الشرق للغرب، شباكه عيونها واسعة تشفق على السمكات الصغيرات التي تتفلت منها مكتفية بالليل القاسي، صيادوه يبادرون الليل بصدورهم العارية وشايهم الثقيل المر وسجائرهم القليلة".
تختبر الرواية ذلك التصور "الرومانسي" عن الجنوب الفاتن، والذي بالرغم من الزخم السحري الذي يغلف موروثه الثقافي والإنساني إلا أنه –دائمًا- يقع على الهامش في كل بقاع الأرض، وتضع الرواية بنائها محل ذلك الجنوب في تصور ساخر لازدواجية المتن والهامش، فالسرد فيها مقسم جزأين؛ متنٌ يضم كثيرًا من الهوامش التي من الممكن أن تحل محله في مواضع عديدة، كذلك يخرج العمل دون أبطال رئيسيون يحركون أحادثه فهم كلهم أرقام متهمين في سجل التحقيقات، فيما تبرز حادثة قتل السائح، والتي من المفترض أن تكون البطل المحرك للأحداث هامشية.
ويطوع أحمد إبراهيم الشريف أداته اللغوية لخدمة ذلك التصور "الرومانسي" المتخيل، فتبدو اللغة المغرقة في الشاعرية هي المسيطرة على السرد، حتى في وصفه لأكثر لحظات الأحداث سخونة، وهو مشهد قطع السفينة لشباك الصيد، وكأن المشهد في لغته الشعرية المكتوب بها، يشبه بالضبط تلك الصورة الغائمة التي تتخلق في ذهن شخص ضُرب للتو بعصا غليظة على رأسه، بحيث يبدو المشهد العام "للعركة" وكأنه تلك الأضواء الملونة الساطعة والخافتة التي يراها ذلك الشخص قبل أن يقع صريعًا في حالة من الإغماء.
ولا تكترث الرواية التي تقوم بالأساس على دوافع شخوصها في الحياة بمصائرهم بعد أن يحكم عليهم بالسجن، مثلهم في ذلك مثل "البلحة الحرام" التي وجدتها الطفلة في بداية الرواية فأهدتها لوالدتها، وظنت أن تلك االتمرة هي التي سمحت للشيطان لأن يوقع بأمها في شباك الرذيلة لتموت مقتولة على يد أبيها الذي رجع من الغربة خصيصًا كي يغسل عاره، فشخوص الرواية هم أيضًا تلك البلحة الحرام المحملون بدوافع الحياة، غير أن الحياة في مشهدها العام بنهاية الرواية قتلتهم بالنسيان بعد أن تفرقت بهم السبل داخل السجن وبعد انقضاء فترته.