في غضون الساعات الـ72 الماضية، استوقفتني ثلاثة مشاهد لافتة تحمل في ثناياها كثيرًا من الدلالات والمعاني الجديرة بالتأمل والفحص الدقيق لاستخلاصها والبناء عليها.
المشهد الأول كان حشود المصريين الذين توافدوا على المتحف المصري الكبير في أول أيام افتتاحه للجمهور، ولا أُبالغ إن قلت إنه كان مهيبًا بالمعنى الحرفي لا المجازي للكلمة، لماذا؟
لقد عكس إقبال المواطنين على زيارة المتحف الكبير بالصورة التي رأيناها اعتزازهم بصرح جديد شُيد بسواعد مصرية خالصة للحفاظ على جزء من تراثنا الحضاري الذي نعتز ونفتخر به، وكان لسان حالهم يقول لأجدادنا الفراعنة: انظروا إلى روعة وجمال ما أقامه أحفادكم؛ لكي يرى العالم ما صنعته أيديكم من مقتنيات وتماثيل خالدة، رغم مرور آلاف السنين.
وفي الوقت نفسه، أبدوا توقيرهم وافتخارهم بحضارتنا الفرعونية العريقة التي أسهمت بقوة في تطور وتقدم البشرية، وتعلّم منها شعوب العالم، القديم والمعاصر، الكثير والكثير في المجالات الحياتية والعلمية والثقافية المتعددة، ولا تزال أقدامها راسخة وثابتة بين الحضارات القديمة، وينظر إليها بإعجاب وافتتان منقطع النظير.
والحديث عن الافتتان يقودنا إلى المشهد الثاني، وهو الصور الرائعة التي نشرتها الملكة ماري، ملكة الدنمارك، على حسابها الشخصي في منصات التواصل الاجتماعي، وظهرت فيها وهي تقف أمام قناع الملك "توت عنخ آمون" الذهبي بالمتحف الكبير، وتنظر إليه بانبهار وشغف شديد وصادق.
بدت الملكة ماري تذوب إعجابًا بإرث شاب حكم مصر منذ أكثر من 3300 عام، وحينما تُحلل المشهد من كل زواياه تصل إلى أن الحضارة الفرعونية تفرض هيبتها على مَن يقف أمامها، متخطيةً حواجز البروتوكول والأعراف السائدة شرقًا وغربًا؛ فالتاريخ يتجسد حرفيًا أمام الناظر، ولا يملك إزاءه سوى الشعور الجارف بالهيبة والوقار.
وتأملوا صدى هذه الصورة بين المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي وما قالوه عنها وعن دلالتها؛ لكي يشعر كل مصري ومصرية بالفخر والسمو، وأنه سليل تلك الحضارة العظيمة التي لا تكف عن البوح بأسرارها بين الحين والآخر، ويتبدى مدى ما بلغته من رُقيّ وتَحضُّر وتقدم.
قارنوا بين ذلك وبين رد فعل بعض المصريين الذين تركوا كل هذه التفاصيل الباعثة على الفخر، ليُصدروا فتاوى وأحكامًا بأنه لا يجب زيارة تماثيل الفراعنة لأنها أوثان يتحتم الابتعاد عنها، ويزعموا – بمنتهى الأريحية – أننا لا ننتمي إلى هؤلاء العظماء، ويتعين علينا ألا نتحدث عنهم وعن إنجازاتهم المبهرة والرائدة. فهل هذا كلام يقبله العقل والمنطق؟ وهل هذه الزمرة يعيشون معنا في القرن الحادي والعشرين أم أنهم قابعون في زمانٍ آخر؟
ومن مشهد الملكة ماري نصل إلى المشهد الثالث، وهو تريُّض رئيسي وزراء هولندا وبلجيكا وقرينتيهما على ضفاف النيل صباحًا بين الناس، من دون حراسات أو ترتيبات مسبقة، مما يعكس ما يتمتع به وطننا من أمنٍ واستقرارٍ بذلنا تضحيات جسيمة ومتواصلة للمحافظة عليه من كيد الكائدين ودسائس المتآمرين والخونة، الذين يسوؤهم ويقض مضاجعهم بقاء أرض الكنانة آمنةً مستقرةً وسط محيط يغلب عليه عدم الاستقرار والاضطرابات المستمرة.
وقد نجحت مصر، بفضل شعبها وتماسكه وصلابة قيادتها السياسية، في الحفاظ على الدولة الوطنية التي كانت، ولا تزال، هدفًا ثابتًا لأهل الشر والسوء.
إن المشاهد الثلاثة التي استعرضناها سريعًا تؤكد أن مصر القديمة والمعاصرة بلد عظيم يقدر الآخرون مكانته وقيمته، وأنها قادرة على الإنجاز دون اكتراث أو وجلٍ مما يعترض طريقها من تحدياتٍ ومصاعب، فالمصري لا يعرف المستحيل، ويمضي بثباتٍ لبناء مستقبلٍ أفضل له ولأحفاده، مقتديًا بأجداده الفراعنة العظام.