بمنتهى الصدق قرر أن يقولها بكل ما أوتي من شجاعة وقدرة وقوة وصراحة وموضوعية، قرر أن يبوح بها، قالها أمام الجميع، صرخ بها في وجوههم بعد أن قطعت قلبه ومزقت ضلوعه، وأصبح كتمانها والاحتفاظ بها على هامش الذاكرة أمرًا مستحيلًا.
نعم.. وبكل تأكيد.. كم كُنتُ غبيًا يا أبي!
كم كُنتُ غبيًا عندما يقابلني على وجهك ذلك الصمت الغامض، وتلك النظرة العجيبة التي لم أفهم يومًا منها شيئًا! أجدك صامتًا لا تتكلم، لا تفسر، لا تحاول مرة واحدة أن تريحني من قلقي وحيرتي.
تتركني أتكلم وأتكلم، أصول وأجول أمامك وأنا أرتب وأنسق عباراتي العميقة الرنانة لأعبر لك عما بداخلي، أعلم أنه قد يصعب عليك وعلى جيلك فهمها، لكن ما حيلتي وهي كل ما أعرف! أقف أمامك متسائلًا حائرًا تائهًا فلا أجد إلا تلك النظرة تتصدر وجهك الصامت! ولطالما طاردني السؤال: أكان هذا هدوءًا وصبرًا وحكمة أم استسلامًا وضعفًا وقلة حيلة؟ هل أنت واثق من نفسك ورأيك إلى هذه الدرجة التي أضفت عليك هذا الهدوء، أم أنك ضعيف واهن قليل الحيلة، لا تملك شيئًا تفعله أو تقوله؟
ما دار ببالي ساعتها أنك أبي.. وأنك الأولى بالحديث والشرح، وتفسير ما يدور حولي من أمور وأحداث يعجز عقلي الصغير وخبرتي القليلة عن فهمها واستيعابها وإدراك الحكمة منها والصبر عليها؟ على الأقل أن تشرح لي معنى تلك النظرة!
صحيح أن نظرتك المبهمة قد سبقتها كلمات، لا أنكر ذلك، لكن كلماتك لم تقنعني، لا أدري لماذا لا تقنعني كلماتك دائمًا! ولا خبراتك العديدة المتراكمة على كتفيك، التي تظل تسردها وتتندر بها طول الوقت، وكأن أحدًا لم ينل ما نلته، ولا سنوات عمرك الطويلة التي لا تمل من بعثرتها أمامنا دومًا، وعلى وجهك فخر غريب بأحداثها.
سيدي.. فلتعلم أنك تعيش في واد وأنا في واد آخر!! لم لا تفهم ذلك؟! لا تقل لي إنك تفهم، فكيف لك أن تعي وتفهم ما لم تحط به علمًا؟ لا تقل لي وعلى وجهك تلك النظرة العجيبة - التي بات لا يفصلني عن الإقرار والاعتراف لها بالبلاهة سوى أنها قد اتخذت من وجه أبي مستقرًا لها – لا تقل لي إن غدًا لناظره قريب، وإن الأيام كفيلة بأن تجعلني أفهم وأعلم وأرى بعيني تفسيرًا لكل شيء!
لا تقل إنك قد أخبرتني وشرحت مرارًا وتكرارًا، أعلم جيدًا أنني أجادلك في كل ما تقول، ولست بحاجة لكي تذكرني أنه لا يعجبني ولا يقنعني أكثر حديثك، لكن ماذا أفعل وهذا هو حالي؟
كم كُنتُ غبيًا يا أبي!
كم كُنتُ غبيًا عندما يتحول البيت إلى أشلاء وتتناثر أجزاؤه في كل مكان، وأراك تدور حولنا بشكل مثير للضحك، ثائرًا أحيانًا، ومتمتمًا بكلمات لا نفهمها أحيانًا أخرى، ومرتديًا عباءة الناصح الأمين في لحظات أخرى. كم تستمتع بتلك العباءة، نعم أحسب ذلك عندما أراك مندمجًا بكل كيانك ولسانك ينطق بعباراتك الرشيدة. نصائح.. نصائح.. نصائح!
لا تمل وأنت تطلقها في أي وقت شئت، وكأنك ملك متوج لا يحق لأحد مراجعته؟! لا شك أنك تشعر بمتعة كبيرة وأنت تطالبنا أن نخجل ونشمئز من أنفسنا، أن نحتقرها ونؤنبها ونلومها لما ارتكبته من ذنب، وما وقعت فيه من خطيئة! أن نلعنها لعدم التزامها بالقواعد التي فرضتها علينا في هذا البيت فرضًا، من أخبرك أنك على صواب؟
لم لا تكف عن تلك اللعبة، أرجوك وأتوسل إليك أن تفهم أن لكل جيل قواعده ونظامه، لا تقل أن ما نفعله لا علاقة له بالنظام، ولا تعيد وتزيد أن النظام له أصول لا يختلف عليها أحد، وأن ترتيب البيت ونظافته ووضع كل شيء في مكانه هو قاعدة لا مفر منها. ما الذي يضيرك في أن تجد ملابسنا تحت السرير أو في دولاب المطبخ؟ أليست ملابسنا ولنا كل الحق أن نفعل بها ما نشاء.
ولا تقلق فلن نسألك عنها إن فقدناها، سوف ندبر الأمر بأنفسنا، فقد كبرنا بما يكفي لأن نتدبر أمورنا بأسلوبنا وطريقتنا الخاصة. لا تقل إننا نعود ونسألك عنها.. لا تقل إنك نصحت من البداية، وإننا لو سرنا على نسقك ومنهجك لما ضربت الفوضى أركان حياتنا، نحن نعلم ذلك جيدًا. لا تقل إنني غدًا سوف أصبح أبًا وأعلم الحكمة الخافية وراء صمتك المريب، وأفهم حينئذ المغزى من تصرفاتك العجيبة، وأدرك وقتها معنى نظرتك الغريبة، فأنا بكل أسف لا أجيد الإنصات!
كم كُنتُ غبيًا يا أبي!
كم كُنتُ غبيًا!!