«رحلة الغزال».. نص عربي عمره 1200 سنة يصف الدنمارك وملكة الفايكينج

4-11-2025 | 23:28
;رحلة الغزال; نص عربي عمره  سنة يصف الدنمارك وملكة الفايكينجصورة تعبيرية
أحمد عادل

تصدرت صور الملكة ماري ملكة الدنمارك وسائل التواصل الاجتماعي بجمال مُحياها وانبهارها بعظمة الحضارة المصرية خلال مشاركتها في افتتاح المتحف المصري الكبير، حيث توزعت تلك الصور بين قاعة الملك الذهبي توت عنخ آمون، وبانوراما أهرامات الجيزة.. وهذا ما يدعو إلى التفتيش عن أقدم النصوص العربية التي وصفت بلاد الدنمارك وملكتها قبل 1200 عام. 

ذلك الوصف بدا من خلال رحلة أمير شعراء الأندلس وسفيرها وعرابها يحيي الغزال في القرن الثالث الهجري، عندما وصف الملكة نود ملكة الدنمارك التي كانت تحكم بلاد النورمان أو الفايكنج في ذلك الوقت.

والشاعر يحيى بن الحكم البكري الجياني (156-250هـ) المُلقب بيحيى الغزال، هو شاعر أندلسي عاصر خمس أمراء للدولة الأموية في الأندلس، وبرع في شعر الغزل والحكمة، وقد سُمي بالغزال لجماله وظرفه وتأنقه.

تأثر يحيى الغزال بشعر أبي نواس وأبي تمام، كما كان موسوعي المعارف، وله اشتغال بعلم الفلك والتنجيم.

كان الغزال يعيش في بلاط الأمير عبد الرحمن الأوسط الذي كان يغص بالمبدعين، مثل العالم والفلكي الكبير عباس بن فرناس، أول من حاول الطيران، والأديب اللوذعي ابن عبدربه أول من أبدع فن الموشحات وصاحب كتاب (العقد الفريد)، وزرياب الموسيقى العبقري الذي أضاف للعود وتره السادس وتعلمت منه الأندلس وأوروبا فن الإتيكيت، والفقيه يحيي بن يحيي الليثي، تلميذ الأمام مالك في الفقه، والذي أطلق عليه الإمام لقب (عاقل الأندلس).

هذه المواهب أهلته لأن يكون سفيرا للأمير عبد الرحمن الأوسط الذي حكم الأندلس بين عامي (٢٠٧-٢٣٨هـ)  لبلاط الإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس؛ ردًا على سفارة كان الإمبراطور أرسلها لطلب ود عبد الرحمن. 

سفارة الغزال إلى الدنمارك

تعرضت الأندلس لهجمات بحرية وبرية عام ٢٢٩هـ، قام بها الفايكنج أو النورمان (وهم قبائل من شمال أوروبا تسكن بلاد النرويج والدنمارك والسويد)، استباحوا خلالها المدن الأندلسية التي تقع في البرتغال الحالية، وأبحروا في نهر الوادي الكبير وسيطروا لعدة أيام على مدينة إشبيلية الأندلسية، وأخذ المسلمون وقتًا للتخلص من غارة هؤلاء الغزاة الفايكينج.

قرر الأمير عبد الرحمن الأوسط مسالمة هؤلاء الفايكنج في الدنمارك، فأرسل يحيي الغزال بسفارة إلى بلاط هوريك الأول ملك النورمان، في رحلة عاد منها بعد عشرين شهرًا عام 232هـ. 

أبحر الغزال من البرتغال قاصدًا أقصى شمال أوروبا، وقد أفرد الغزال رسالة في وصف رحلته إلى بلاد الدنمارك (موطن الفايكينج)، لم يبق منها إلا بعض شذرات، وهو أقدم وصف عن البلاد الإسكندنافية في تراثنا العربي، فيقول في وصف تلك البلاد:(هي جزائر كثيرة منها صغار وكبار، أهلها كلهم من المجوس، وما يليهم من البر أيضًا لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية).

وقد أطلق المسلمون على الفايكنج اسم المجوس؛ لأنهم يقومون بإضرام النار في كل ما يقف أمامهم خلال غزواتهم، فظنهم المسلمون أنهم يعبدون النار كالفرس القدماء.

وحين وصل الغزال إلى الدنمارك قام هوريك الأول ملك النورمان في الدنمارك باستقبال الغزال، مبعوث الأمير الأموي أحسن استقبال، ولما علمت زوجته الملكة جونهيد، والتي أسماها الغزال (نود) بقدوم الوفد أصرّت على مقابلته، وقد أبدى الغزال إعجابه بالملكة نود، كما أعجبت به، ونمت بينهما صداقة، حيث سمحت للغزال بزيارتها في الوقت الذي يشاء، وقال فيها أكثر من قصيدة، نقتطف من إحداها هذه الأبيات:

كُلِّفْتَ يا قلبِي هوىً مُتْعبا … غالبتَ منه الضَّيغَمَ الأغْلبَا
إنّي تعلّقتُ مجُوسيَّةً … تأبَى لِشمس الحُسن أن تَغْرُبا
أقصى بلاد الله لي حيثُ لا … يَلقى إليها ذاهبٌ مذهبا
يا نود يا ورد الشباب التي...  تطلع من أزرارها كوكبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى... أحلى على قلبي ولا أعذبا

ولما فسر لها المترجم ذلك ازدادت إعجاباً بالشاعر وطلبت إليه أن يخضب شعره (يصبغه)، وكان الغزال قد جاوز السبعين من عمره، فقال في ذلك شعرًا:

بكرت تحسّن لي سواد خضابي.. فكأن ذلك أعادني لشبابي

كان الغزال حكَّاءً مبدعًا، فأخذ عقلَ الملكة بقصصه التي لا تنتهي عن بلاد المسلمين وأحوالها وعاداتها وتقاليدها. وقد سأله أحدُ أصدقائه بعد عودته إلى الأندلس عن مدى جمال تلك الملكة حقًا، فرد عليه قائلا:(وأبيك ! لقد كانت فيها حلاوة، ولكنَّي اجتلبْتُ بهذا القول محبتَها، ونلتُ منها فوقَ ما أردت).

الغزال .. الشاعر الحكيم

ليس ما أبدعه الغزال في الملكة نود هو الذي اشتهر به في الشعر فقط، بل إن الرجل الذي عرك الحياة وعركته ومات وقد جاوز التسعين من عمره، له الكثير من شعر الحكمة، ومنها ما قاله في فتاة خيرها بين الزواج من شيخ كبير السن كثير المال وشاب صغير فقير، فقال:

وخيرها أبوها بين شيخ... كثير المال أو حدثٍ فقير
فقالت كلاهما خسف وما... أن أرى حظوة للمستخير
ولكن إن عزمت فكل شيء... أحب إليّ من وجه الكبير
لأن المرء بعد الفقر يثرى...  وهذا لا يعود إلى صغير

وقال في السعي والطموح وعدم الركون إلى الدعة والخمول:

من ظنّ أن الدهرَ ليس يُصيبُه … بالحادثاتِ فإنّه مغرورُ
فالْقَ الزّمان مُهوّناً لخطوبه … وانْجرَّ حيثُ يَجُرُّكَ المقدورُ
وإذا تقلّبت الأمور ولم تدُمْ … فسواءً المحزونُ والمسرورُ

ثار الغزال على التمييز الطبقي في عصره، وقام بهجاء الأغنياء الذين هاجموا الفقراء حتى في مقبارهم، وقد استشعر قوله تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر)، مؤكدا أن الثرى يسوي بين الأمراء والفقراء، فقال في ذلك شعرا:

أرى أهل اليسارِ إذا توفّوا … بنوا تلك المقابر بالصخور
أبوْا إلا مباهاةً وفخرًا … على الفقراء حتى في القبورِ !
فإن يكن التفاضلُ في ذُراها … فإن العدل فيها في القعورِ
إذا أكل الثّرى هذا وهذا … فما فضلُ الكبير على الحقير؟!

وقد دخل الغزال في صدام مع شيوخ عصره، وخاض حربا ضروسا ضد الفقهاء، فقال:

لستَ تلقى الفقيهَ إلا غنيّا … ليت شعري من أين يستغنونا؟
تقطعُ البرَّ والبحار طُلابُ الـ … ـرزقِ والقوم ها هنا قاعدونا
إن للقوم مَضْرِبًا غاب عنا … لم يُصِبْ قصدَ وجهِهِ الراكبونا

ونتيجة للتعريض بهم، اتهمه الفقهاء بالزندقة، فنسبوا إليه أنه يريد أن يعارض آيات القرآن الكريم شعرا، ولكنه كف عن عزمه، ونسبوا له قصيدة أخرى يخاطب فيها آدم أبا البشر، ويكيل له الاتهامات بأنه السبب فيما يحياه أولاده من مشكلات.

وليس الفقهاء وحدهم من عارضهم الغزال، فقد دخل في عداء مع الموسيقى النابه زرياب، وتذكر المصادر أن الأمير قد نفاه من الأندلس، بسبب مما قاله الغزال بشأن زرياب، ليسافر الغزال إلى بغداد بلاط العباسيين، ألد أعداء بني أمية في الأندلس، وخاف عبد الرحمن الأوسط أمير الأندلس من أن ينتزعه العباسيون منه، كما انتزع منهم زرياب حين قدم إليه من المشرق، فأعاده بعد عامين من المنفى.

الغزال في بغداد 

ولما نزل الغزال بغداد،  اجتمع مع عدد من المشتغلين بالأدب والشعر فذكروا الشعر، فعظموا أهل المشرق، وققلوا من شأن أهل الأندلس، وذكروا شاعرهم أبا نواس فبدأوا بالثناء عليه والمدح في شعره، فقال الغزال أيكم يحفظ قول لأبي نواس؟

فلما أتيت الحان ناديت ربه  فثاب خفيف الروح نحو ندائي
قليل هجوع العين إلا تعلة  على وجل مني ومن نظرائي
فقلت أذقنيها فلما أذاقها   طرحت عليه ريطتي وردائي
وقلت أعرني بذلة أستتر بها  بذلت له فيها طلاق نسائي
فوالله ما برت يميني ولا وفت  له غير أني ضامن بوفائي
فأبت إلى صحبي ولم أك آئبا  فكل يفديني وحق فدائي

فطربوا للشعر وأبدعوا في مدحه، وكل يقول ما أحسنه؟!، ما أجمله؟!، فلما أفرطوا هب الغزال، وقال: خفضوا عن أنفسكم فإنه من شعري.

وهكذا قدم الغزال في رحلته وأشعاره أقدم وصف للدنمارك، أو بلاد الفايكينج خلال العصور الوسطى. 

كلمات البحث