عندما تقف على حافة البحر أو الصحراء أو أمام الغابات، فأنت على موعد مع المجهول، فهذه العوالم الخفية تمثل وحوشًا لا يقدر عليها سوى خالقها، الصحراء على سيبل المثال كانت ساحة كبرى للعديد من الأحداث منها الحقيقي ومنها ما يدخل في مصاف الأساطير.
فبادية شبه الجزيرة العربية في العصر الجاهلي على سبيل المثال، كانت بيئة خصبة للعيد من القصص لا سيما ما رواها الشعراء في وادي عبقر، حين تحدوا عن الغول والسعلاة وقبائل الجن.
قصة الراعي وحسناء الجن
فى أحد دهاليز الصحراء الغربية قرب آبار مليحة، كان أحد الرعاة يرعى بقطيع من الإبل استأجره صاحبها علي رعايتها ملاكها من أسياد الكحيلة (الإبل)، وذات صباح يوم شرد رياح قبلية مُحملة بالأتربة والعجاج، انطلقت الإبل من راعيها ناحية قصر القطاجى، وهو مكان لتل أثري به بقايا جدران أثرية من عصور قديمة بجواره وادى بين علمين (جبلين صغيرين) يقال له (الدير).
هرع الراعى وراء إبله ليسترجعها، وبينما هو يراها من بعيد إذا بصوت صراخ صبية وغبار لخيول تجرى عليها فرسان، لكنها خيول غريبة أجسادها أجساد خيول، ولكن رؤوسها تخوف تشبه رؤوس السحالى مع هرج ومرج كبير بالمكان، وإذا بفتاة فى سن الشباب، جميلة الملامح، كحيلة العين، ولها وشم جميل بين حواجبها، ورائحتها مزيج من المسك والقرنفل، تشبه روائح عجائز البدو المحببة للنفس.
فجأة، اقترب الحسناء من الراعى مبتسمة، هدأت من روعه ونصحته بألا يتوغل أكثر من ذلك فى وادى الدير حتى لا يُصاب بأذى، فأخبرها بأنه يريد استرجاع إبله فطمأنته بأنها ستأتيه بها، ولكن عليه أن يرجع فورًا لخيمته، وبينما هو يهم بالرجوع، لمح ساقيها في مشهد خلع قلبه، رأي لها قدمان تشبهان أرجل الطائر عليهما قشرة غليظة، ولكل رجل منهما سبعة أصابع، الأصبع نصفه حافر!.
تملك الخوف من الراعى، ولكن استجمع قوته، وعاد لخيمته وهو فاقد الإحساس بنصف جسده الذى أصابه التنميل، كان يرتعد من البرد رغم شدة حر ذلك اليوم، دخل خيمته وقت الضحى وتغطى برداء صوفى ثقيل، ولم يستفق من نومه الا بعد العصر علي صوت إبله وقد عادت، وقد بلغت مبلغها من الجوع باحثة عن طعام فخرج لها وأطعمها، وبدأ يجمع الحطب ليعد طعام العشاء لنفسه، وإذا بخاطرة تخطر بباله عن نار المغرب وما تجلبه من شرور، وبينما هم بإطفاء النار إذا به يسمع صوت الفتاة تطمئنه: لا تخف أوقد نارك وأصنع عشاءك، ولا تخش شيئا، فأنا هنا لحمايتك.
التفت الراعى إليها فإذا هى الفتاة التى قابلته صباحًا جمالها الأخاذ، أنساه شكل أرجلها، وأخذ يستأنس بكلامها، حكت له قصتها أن ذلك النجع الذى رآه صباحا، هم أهلها وأنهم قبيلة الهزبي من الجن، وهى ابنة شيخ القبيلة، وأباها يريد أن يزوجها بأحد شباب القبيلة من الفرسان الذين كانوا يتسابقون فى الصباح، ولكنها لا تريد الزواج منهم؛ لأنهم أصغر منها وهى تريد زوجا من الإنس، ولكن والدها يأبى ذلك.
تسامرا طيلة الليل وذهب بالراعى بعضًا من وحشته، وهمت الفتاه مغادرة، وهى تغادر حذرته ألا يعود للدير مرة أخرى، فأخبرها بأنه ما ذهب إلا لاسترداد إبله، فشددت عليه فى ذلك وانصرفت.
وفى تلك الليلة بات الراعى فى خيمته وهو غير مدرك لما حصل، ويظنه حُلمًا كان يحلمه، وفى صباح اليوم التالى، استيقظ من النوم علي صوت إبله وهى تجرى باتجاه الدير، فأسرع خلفها ليعيدها، ولكنه لم يدركها، نزلت الإبل فى الوادى، فجلس الشاب يستريح وأشعل النار لإعداد فطوره، فإذا بالفتاة تظهر وهى غاضبة منه، وتلومه لماذا لم يسمع كلامها؟، وإذا بالصبية الصغار يتجمعون حول إبله يلعبون بالحوارين، فنزل مسرعًا لينهاهم عن فعلهم هذا، فإذا بالفرسان يأتون إليه مُسرعين بخيلوهم المخيفة، فتقف الفتاة بينهم وبينه، وتأمره بالعودة فورًا لخيمته وهى تصرخ صرخة أرعبته، وفجأة يظهر والدها شيخ النجع، مُرتديًا عباءة واسعة، وفى يده عصا من نبات العوسج كلها أشواك، فيضربه بالعصا بين عينيه، فإذا به يُفيق بعد الضربة، وهو فى خيمته، والدم يقطر من جبهته من أثر الضربة.
نام فى تلك الليلة ترتعد أوصاله مما رأى، ولكن عزم أمره أن يعود صباحًا لاسترجاع إبله، فلما جاء الصباح، استجمع قواه وحمل معه فطوره وذهب يطلب الإبل، فلما وصل للدير ظهرت له الفتاة مُجددًا، وقالت له: أن هذا يومهم الأخير فى هذا المكان، وسيرتحلون منه للبحر، وبعد رحيلهم يمكنه استعادة إبله، وأخبرته وأن أمها كانت رصدًا فى هذا المكان، ولكنها ماتت ودُفنت تحت حجارة قصر القطاجى، وأن أباها كلما أشتاق إليها عادوا لزيارة المكان، وصرخت الفتاة بعدها في وجهه، آمرة إياه بالعودة إلى خيمته، فإذا بالراعى يطير من هول الصرخة عن الأرض، ويصل لخيمته التى تبعد ستة أميال عن الدير فى لمح البصر، وصل خيمته، وأغشى عليه لثلاث ليال، أصابه فيها من التعب ما كاد أن يتسبب فى موته، إلا أن رحمة الله واسعة، إذ جاء أصحاب الإبل فوجدوا راعيهم علي هذا الحال فحملوه معهم للمدينة.
وذهبوا به لشيوخ يقرأون عليه القرآن فإذا به يرى الفتاة تسبقهم فى القراءة وتغلبهم فى الحفظ، ولكن كان الشيوخ يرونه هو من يقرأ ويرد عليهم فأخبروا أهله بأنه قد أصابه مس من الجن وعليه بالصلاة وقراءة القرآن، فذهب أهله به لأحد العرافين الذى صنع له حجابًا، وإن كان هو غير محب لذلك، إلا أن شدة التعب جعلته يتعلق بأى علاج ولازال راعينا علي قيد الحياة تظهر له الفتاة فى أحلامه، ويحن إلى العودة إلى ذلك الدير ولكن أهله يمنعونه.
الأثري عبد الله إبراهيم موسى
مدير منطقة آثار مرسى مطروح للآثار الإسلامية والقبطية
الأثري عبد الله إبراهيم موسى