في مساء الأول من نوفمبر 2025، بدت مصر كأنها تستعيد أنفاسها القديمةَ؛ حيث لم يكن الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير مجرد حدث ثقافيٍ، بل كان إعلانًا عن عودة "أم الدنيا" إلى لحظة من لحظات ذاتها العميقةِ؛ عشرات الوفود الرسميةِ، رؤساء دول وحكوماتٍ، ومسئولو منظمات دولية وإقليميةٍ، جاءوا يشهدون ما يشبه ميلادًا جديدًا لواحدة من أعرق حضارات البشريةِ.
استغرق بناء المتحف أكثر من عشرين عامًا، لم تكن مجرد أعمال هندسيةٍ، بل رحلة بحث عن الذاكرةِ، وحين فُتحت أبوابه في النهاية، وقف العالم أمام أكبر متحف مُكرَّس لحضارة واحدةٍ، يضم نحو مئة ألف قطعة أثريةٍ، منها خمسة آلاف تُعرض لأول مرةٍ. عاد توت عنخ آمون إلى الواجهة، قناعه الذهبي وعرشه وعربته الحربيةُ، كأن الفتى الملك خرج من سكون الزمن ليُطل من جديد على ضفاف النيلِ، وعلى وطن كان يومًا موئلًا لعجائب الدنيا.
لكن المتحف، في جوهرهِ، ليس مبنى من حجارة وزجاجٍ، بل طبقة جديدة من سرد الرواية المصرية عن نفسها. فمنذ القرن التاسع عشر، حين تسلحت أوروبا بسيوفِ المدافع وفتحت أبواب الشرقِ، بدأت رواية كُتبت بغير لغتنا، عنوانها أن الغرب هو المركزُ، وغيره الأطرافُ. حضارة الغرب تقف في مواجهة "البربرية". وفي الطريق إلى تثبيت تلك الرواية، نُهبت آلاف القطع الأثرية من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيةِ. خرجت هذه الكنوز من أوطانها تحت راية "الحماية" أو "العلم"، ودخلت قاعات المتاحف الأوروبية تحت مسمى "الإنسانية".
وهكذا، أصبح حجر رشيد – مفتاح فهم الهيروغليفيةِ (اللغة المصرية القديمة) – قطعة باردة في المتحف البريطانيِ. وبقيت النُسخ الأصلية من ذاكرة مصر موزعةً في كل اتجاهٍ، بينما يبقى أهلها مضطرين لأن يسافروا إلى لندن وباريس وروما ليقرأوا تاريخهم.
وإلى جانب حجر رشيدٍ، توجد أيضًا مومياوات ملكية لا تزال في الخارجِ، تُعامل كما لو أنها بلا هويةٍ. علماء آثار مصريون طالبوا مرارًا باستعادتها، لكن النداءات اصطدمت بجدار من الصمت من المسؤولين في العواصم الأوروبية الكبرى. وكانت الحجة الغربية دائمًا أن "هذه الآثار في أيدينا أكثر أمانًا"، وهي حجة تعكس مركزية حضارية ضاربةً، تتصور أن الأصل لا يصلح لحماية تاريخه.
غير أن الزمن تغيرَ. دول الجنوب العالمي بدأت تفتح عينيها من جديدٍ. ليس بصوت غاضبٍ، بل بصوت واعٍ يقول إن الحضارة لا تُحتكر، وإن رواية التاريخ لا تُكتب من مكان واحدٍ. بل إن بعض الدول، ومنها الصينُ، بدأت تتحدث بلسان جديدٍ، لسان يؤمن بأن الحضارات تتكامل ولا تتصادمُ، وأن التبادل المعرفي ليس صراعًا، بل دعوة إلى لقاءٍ. وفي مبادرتها تحت مسمى "الحضارة العالمية" لعام 2023، دعت بكين إلى أن يتقدم التعلم المتبادل بين الحضارات على المواجهةِ، وأن يحل التعايش بين الحضارات محل التفوقِ.
ومن هنا، يكشف افتتاح المتحف المصري الكبير عن فجوة لا تخطئها العينُ؛ فبعض أهم كنوز الحضارة المصرية القديمة لا يزال بعيدًا عن موطنهِ. حجر رشيد أهمها، ومعه عشرات القطع التي تحكي فصولًا من حياة الفراعنةِ. وكأن المتحف، على جماله ورحابتهِ، ينقصه شيء من روحهِ. وبالتالي، فإن عودة هذه القطع ليست مجرد مطالبة سياسية أو قانونيةٍ، بل واجب حضاريٌ. لأن الأثر ليس حجرًا فحسبُ، بل ذاكرة جماعيةٌ، وقطعة من وعي الأمة بذاتها.
ومع إدراك مصر لهذه الحقيقةِ، بدأت في السنوات الأخيرة بناء مسار طويل لاستعادة ما فُقدَ. مسار يجمع بين القانون والدبلوماسية والالتزام الأخلاقيِ. وربما يأتي اليوم الذي تستجيب فيه المتاحف الغربية للنداء المصريِ، وتفهم أن احترام التاريخ أكبر من الاحتفاظ بهِ.
فعلى سبيل المثالِ، ستربح بريطانيا – لو أعادت حجر رشيد – احترامًا عالميًا غير مسبوقٍ، يفوق ما قد تخسره من مقتنياتٍ.
وذلك لأن استعادة مصر لهذا الحجرِ، وغيره من كنوز وآثار مسروقةٍ، هو استعادة لـحقٍّ. بل يمكن أن تكون — إن أُحسن التعامل معها — جسرًا جديدًا من الاحترامِ. فالاعتراف بالحقِ لا يُضعف صاحبهُ… بل يُقويه.
المتحف المصري الكبير ليس نهاية الحكايةِ… إنه بدايتها. محطة على طريق أطولَ، عنوانه أن تعود الكنوز والآثار المنهوبة إلى أصحابها. أن تعود الذاكرة لتكتملَ. وأن تستعيد مصر – ومعها حضارات الجنوب – حقَّها في أن تروي قصتها بصوتها.
وفي عالم يبحث عن معنى جديدٍ، ربما تكون مصر – كما كانت دائمًا – قادرة على أن تضيء طريقًا… لا يعود إلى الماضي، بل ينطلق منه نحو المستقبلِ.
* رئيس وحدة العلاقات الدولية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية