عقيدة التوحيد في مصر القديمة من النبي إدريس لمؤمن آل فرعون.. هل صار أخناتون على خطى يوسف؟

2-11-2025 | 20:00
عقيدة التوحيد في مصر القديمة من النبي إدريس لمؤمن آل فرعون هل صار أخناتون على خطى يوسف؟لوحة حجرية تصور الملك أخناتون يتعبد لمعبوده آتون

عُرفت عقيدة التوحيد بأرض مصر وذلك منذ القدم، وبحسب بعض الباحثين ارتبط ذلك بالنبي إدريس ـ عليه السلام ـ، وهو الذي عاش فيما يقال في مصر منذ حوالي النصف الثاني من الألف الخامس ق.م، بحسب بعض الروايات.

موضوعات مقترحة

قال عنه القفطي (ت: 646هـ/1248م) في كتابه الموسوم "إخبار العلماء بأخبارالحكماء": "وعمن أخذ العلم قبل النبوة، فقالت فرقة: ولد بمصر، وسموه هرمس الهرامسة"، وقيل: "كان مولد إدريس عليه السلام بمدينة منف أقدم عواصم ملوك مصر".

كما ارتبط التوحيد بمصر بقوة منذ أيام النبي يوسف ـ عليه السلام ـ، وكان يوسف لايتوقف عن دعوة المصريين في ذلك الوقت لعقيدة التوحيد، وعبادة الإله الواحد، خالق الكون، الذي لاشريك له، وحتى كانت دعوته للتوحيد معروفة لما كان في غياهب السجن، فما بالنا بحاله لما يخرج منه، من ثم يصبح حُكم البلاد، وإدارة شؤونها بين يديه، وعن دعوته تلك قال تعالى: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار" (سورة يوسف، الآية 39).

كما ورد في ذات الشأن على لسان الرجل الصالح المدعو باسم "مؤمن آل فرعون"، وهو يُذكر "فرعون" وحاشيته برسالة النبي يوسف عليه السلام التي تقوم على التوحيد من قبل، والبينات التي جاء بها من الله تعالى: "وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ" (سورة غافر، الآية 34) . 

 أما في رواية التوراة، يُثني فرعون مصر على النبي يوسف ـ عليه السلام ـ وعلى حكمته، وبصيرته التي فاق بها حكماء مصر آنذاك، بقوله: "فقال فرعون لعبيده. هل نجد مثل هذا (أي يوسف) رجلا فيه روح الله، ثم قال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا. ليس بصير وحكيم مثلك..ثم قال فرعون ليوسف. انظر قد جعلتك على كل أرض مصر.." . وهكذا تسبب تفسير يوسف لحُلم ملك مصر إلى أن ارتفعت مكانته في مصر، وقربه فرعون مصر منه.

كما تذكر أسفار التوراة أن النبي "يوسف" ـ عليه السلام ـ كان قد تزوج من أسنات، وهي ابنة كاهن الشمس، أو كاهن هليوبوليس، وكان يُدعى باسم فوطيفارع، أي: "با– دي – بار رع"، وهو اسم يعني: "عطية رع"، أو عطية الإله، أو كما نقول في أيامنا: (عطية الله).

وعن ذلك الزواج، يذكر سفر التكوين: "ودعا يوسف صفنات فعنيخ. وأعطاه أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون زوجة.." . ومن المعلوم أن عقيدة التوحيد دخلت بين الفكر اللاهوتي لعقيدة الشمس، وكان خال الملك أخناتون أو أمنحتب الرابع (1353-1336 ق.م)، وهو أخو الملكة "تي"، وهي الزوجة الأثيرة لدى الملك أمنحتب الثالث (1390-1352 ق.م)، وهو الكاهن "عانن"، وكان يشغل منصب كبير كهنة الشمس أيام أخناتون . 

وعن ذلك الزواج من ابنة كاهن عين شمس يذكر ابن زولاق (القرن 4هـ/10م):"وممن صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم السلام..وتزوج يوسف بنت صاحب عين شمس.."، ولعل هذا على الراجح ما أشار إليه ثلة من المؤرخين العرب القدامى الآخرون؛ مثل ابن الكندي (عاش بمصر منتصف القرن 4هـ/10م)، وغيره . 

كما تذكر بعض الروايات أن يوسف تزوج زليخا إمرأة فوطيفار (عزيز مصر): "وتزوج (يوسف) زليخا بعد أن عجزت، وعميت، فدعا الله عز وجلن فردها إلى حالها الأول، ورزق منها بالولد.." ، وقيل كان اسم تلك المرأة "راعيل" ، وفي ذلك الأمر أقوال ورويات أخرى عديدة. وفي هذا الشأن، يذكر أحد العلماء: "وهناك قرائن قد تدل على أنه كان لبني إسرائيل أثر ما في الانقلاب الديني الذي قام به أمنحتب الرابع أو أخناتون، أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة..فقد هدف أخناتون في انقلابه إلى عبادة ما وراء الشمس، وتقرير الوحد الإلهية، وسمى معبوده آتون الذي ظن أنه مقتبس من اسم أدون أو أدوناي العبراني الذي كان العبرانيون يسمون به الرب.." . 

وهناك لوحة حجرية  تصور الملك أخناتون يتعبد لمعبوده آتون، الإله الواحد الذي لاشريك له، ويعتقد أن دعوة يوسف كان لها تأثير على التوحيد أيامه، بحسب ما أقرت هـ. سوروزيان، في كتابها (المتحف المصري)، ص89.

بل إن أحد الباحثين يزعم أن أم الملك أخناتون كانت من أصول عبرانية، وهو قولٌ واهن بالطبع، ولايمكن الأخذ به، ولا ثمة دليل عليه، وعلى هذا فإن هذا الزعم ليس إلا محض افتراء، وليست له من الأدلة والبراهين التاريخية والأثرية الحقيقية التي يمكنها أن تؤكد هذا الادعاء، لاسيما وأنه من المعلوم أن الملكة تي (أم أخناتون) كانت مصرية خالصة، بل وكانت من عامة الشعب، وملامحها الموجودة على تماثيلها تؤكد على مصريتها قلبًا وقالبًا.

ومن المعلوم أن الملك "أخناتون" كان قد نشأ بمدينة "أرمنت" بالقرب من طيبة (الأقصر حاليًا)، وكانت أرمنت تشتهر بأنها من المدن الدينية المهمة، ولهذا اشتهرت باسم: "أون الجنوبية"، أو مدينة "هليوبوليس" (مدينة إله الشمس رع) مصر العليا، "وقام على تعليمه كهنة من أتباع لاهوت هليوبوليس، ومن ثم تعَّمق أخناتون في دين رع" .

والمؤكد أن عقيدة التوحيد التي دعا إليه الملك أخناتون كانت متأثرة بشكل واضح بالأفكار التي دعا إليها النبي يوسف ـ عليه السلام ـ إلى التوحيد، لاسيما وأن يوسف كان فرعون مصر في أيامه قد ترك له تدبير أمور البلاد، وصار يدعو للتوحيد، وهو ما يبدو بوضوح في النُصوص القرآنية العديدة، وكان ملك مصر في زمان يوسف من أهل التوحيد، وهو ما يؤكده الكثير من العلماء، ولعل من ذلك، قال أبوالفداء: "ودعا يوسف الريان فرعون مصر المذكور إلى الإيمان، فآمن به، وبقي كذلك إلى أن مات الريان المذكور.." . وفي رواية أخرى عن هذا الملك: "وكان الريان حسَن السيرة، عادلاً في الرعية". 

يجدُر بالذكرِ أن الكهنة المصريين هم الذين قاموا بعمل تلك النقوش والكتابات على جدران المعابد والمقابر والمسلات، وغيرها، وكان الكُتاب من طوائف الكهنة، ومن الواضح أن هؤلاء الكهنة أرادوا أن يذكروا بعض الأحداث أو الوقائع التي ذاعت في مصر والمرتبطة بوجود الأنبياء في تلك البلاد، أو تلك التي وردت في متون الكتب المقدسة. غير أن هؤلاء الكهنة أرادوا الحديث عنها فيما يرى المؤلفُ بشكلٍ رمزي في النقوش التي كانوا يسجلونها على جدران معابدهم وقبورهم، ودون أن يذكروا اسم هؤلاء الأنبياء الذين عاصروا تلك الوقائع.

الكهنة ودورهم في تحريف ديانة التوحيد

نعلم أن الكهنة المصريين أخذوا جانب العداء من الأنبياء، لأن عقيدة الكهنة تقوم على نقيض التوحيد الذي يدعوا له الأنبياء. 

ومن المتفق عليه بين علماء المصريات أن الكهنة هم الذين قاموا بتحريف عقيدة التوحيد، وعملوا على فرض عقيدة التعدد؛ لأنها تزيد من ثرواتهم، ونفوذهم، فكلما زادت أعداد المعبودات، كلما زادت الأعياد والقرابين والعطايا والأموال التي تُقدم لهم . بل إن هناك من العلماء من أشار إلى أن التوحيد في مصر القديمة كان له تأثير واضح على العديد من الأفكار والتصورات الدينية واللاهوتية لدى اليهود خلال الالمدة الطويلة التي أقاموها بأرض مصر .

يرى بعضُ علماء المصريات أن "ديانة أخناتون" (التوحيدية) فيها الكثير من التأثيرات وكانها من الوحي الإلهي: "حاول أمنحتب الرابع (أو أخناتون) أن يؤسس ديانة إيجابية، وكمجدد ديني، تكلمن وتصرف، كما و كان ذلك بوحي إلهين وأن لديه رسالة إلهية للبشر، وحاول بكل طريقة أن يتحول عن تقاليد الماضي.." . 

أما فيما يخص وجود بعض تلك التأثيرات الدينية فيما بين ديانة أخناتون من ناحية،  وديانة بني إسرائيل من ناحية أخرى، يذكر أحد الدارسين: "وقد وُصِفت ديانة أخناتون أثناء عصر العمارنة (الأسرة 18) بالوحدانية، وأعلن أنها إشارة محتملة بأن المصريين كانوا مصدر الفكري اليهودي– المسيحي" . تبدو عقيدة التوحيد الخالص واضحة بشكل جلي لايمكن أن تخطئه العديد من المتون الواردة في النقوش المصرية القديمة، الموجودة على جدران المعابد، والقبور، والمسلات، وغيرها..الخ، وغيرها، حيث تصف النصوص الإله الخالق قائلة: "أيها الرب الواحد، الوحيد.." . 

 وتتجلى تلك العقيدة بجلاء في أناشيد التوحيد التي تنسب للملك أخناتون، حيث يذكر المتن: "أيها الإله الواحد، الذي سوى نفسه بنفسه، وخالق كل شيء، يا أيها الإله الواحد، الذي لايوجد بجانبه شأن لأحد.." . كما ورد في الأسطورة المشهورة باسم "هلاك البشر" حول وصِف الإله الخالق بشكل واضح متوافق مع ما ورد في الكتب السماوية: "أيها الإله الواحد، الذي أوجد نفسه.." . كما وردت العديد من الإشارات الأخرى تؤكد على فكرة التوحيد في مصر القديمة، يقول أحد النقوش في مناجاة الإله الواحد: "أنت تشرق بجمالك  يا آتون الحي.. يارب الأبدية .. أنت ساطع وقوي وجميل..وحبك عظيم وكبير..أيها الإله الذي خلق نفسه بنفسه .. وخالق كل أرض .. وباريء كل من عليها.." . 
 

ويرى بعضُ العلماء أن الديانة المصرية القديمة كانت تتميز بشكل عام بأنها ذات طبيعتين متباينتين: إذ كانت هناك ديانة للعامة والبسطاء، وأخرى للخاصة (أي لكل من الكهنة، والحكماء، والملوك) . ومن المعلوم أن المصريين القدماء كانوا قد اشتهروا بتدينهم بشكل واضح، حيث قال المؤرخ هيرودوت (القرن 5 ق.م): "إن المصريين هم أكثر الشعوب تدينا.." . ومما يذكره بعض العلماء عن دور الكهنة في تحريف الديانة المصرية التوحيدية التي كان يدعوا لها الأنبياء، ويشير ول ديورانت إلى أن الكهنة كانوا يتقاضون أموالا من بسطاء المصريين والعامة مقابل أن يقدموا لهم ما يمكن أن يساعدهم للمرور من العوائق التي سوف يمروا بها في العالم الآخر.

بينما يقول عالم المصريات الفرنسي جان فرانسوا شامبليون Jean Francois Chmpolion: "إن الديانة المصرية كانت ديانة توحيد بك معنى الكلمة.." . وعن دور الكهنة في تحريف الديانة المصرية، يذكر واليس بدج: "إن الكهنة الحمقى هم الذين وضعوا ظلالا على العقيدة التوحيدية النقية التي ظهرت في مصر منذ أقدم العصور..".

د. إسماعيل حامد إسماعيل 

عضو اتحاد المؤرخين العرب

عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية 


د. إسماعيل حامدد. إسماعيل حامد
كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة