في قلب بودابست، المدينة التي تحفظ وجوه الزمن الأوروبي بين جسورٍ من حجارةٍ وموسيقى، أشرقت مصر من بعيد، لا كضيفٍ عابرٍ في احتفالٍ دبلوماسي، بل كذاكرةٍ كونيةٍ تنهض من أعماق التاريخ لتقول إنها لا تزال هنا… حارسة النور، وراعية المعنى.
موضوعات مقترحة
في تلك الليلة التي احتضنها بيت مصر، لم تكن القاعة مكاناً للحدث، بل مشهداً تتجلّى فيه روح أمةٍ تتحدّى الغياب. فقد أقام السفير الدكتور أحمد فهمي احتفالاً جمع الدبلوماسيين والمفكرين والفنانين في لحظةٍ بدت كأنها لقاء بين زمنين: زمن الحجر الذي نطق قديماً، وزمن الإنسان الذي ما زال يسأل عن الخلود.
حين تحدّث السفير، لم يتحدث عن المتحف المصري الكبير كمعمارٍ من جدرانٍ وزجاج، بل كـ كائنٍ حيٍ ينبض في وعي المصريين. قال: إن المتحف ليس مبنىً يُعرض فيه الماضي، بل هو ذاكرة وطنٍ لا يشيخ، وصدى إرادةٍ تصوغ الخلود حجراً بحجر ونوراً بنور.
كأنما كان صوته يعيد تعريف الحضارة، لا ككتلة من التاريخ الجامد، بل كـ حالة وعيٍ تتجدد كلما قرأ الإنسان ذاته في مرآة الزمن.
وعندما تابع الحضور البثّ المباشر لافتتاح المتحف من القاهرة، خيّم على القاعة صمتٌ يشبه الصلاة، لم يكن الصمت رهبةً من الجلال، بل إنصاتاً لصوتٍ داخليٍّ قديمٍ يذكّر الإنسان بأنه من طينٍ ودهشةٍ ونورـ وكأن الفراعنة أنفسهم، في تلك اللحظة، عبروا المسافات لا ليُروَ عنهم، بل ليشاركوا أبناءهم حكاية البقاء.
وفي نهاية الأمسية، انفتح الحوار حول فكرة الخلود الإنساني عبر الفن، فتبدّى أن الفن وحده يملك سلطة إنقاذ الذاكرة من الفناء، وأن الحضارة، في معناها الأعمق، ليست ما خلّفه الأجداد فحسب، بل ما يستيقظ فينا كلّما نظرنا إلى الجمال كمرآةٍ لوجودنا.
وهكذا، لم تكن بودابست في تلك الليلة مجرد مدينةٍ أوروبيةٍ تُنصت لمصر، بل فضاءً روحيّاً وُلدت فيه من جديد علاقة الشرق بالغرب، لا بوصفها حوار ثقافات، بل لقاء أرواحٍ تتذكر أصلها الواحد: الإنسان الباحث عن الضوء.
مصر، إذ تضيء ذاكرتها، لا تحتفل بالماضي، بل تعلن أن الزمن لا يهزم من عرف سرّ الحجارة والنور، إنها لا تروّج لتاريخٍ عظيم، بل تستحضر وعياً أزلياً يقول إن الحضارة ليست ما صنعناه، بل ما صرنا عليه.
مصر تضيء ذاكرتها في قلب بودابست حين تتحوّل الحضارة إلى وعيٍ يعيش في الإنسان
مصر تضيء ذاكرتها في قلب بودابست حين تتحوّل الحضارة إلى وعيٍ يعيش في الإنسان
مصر تضيء ذاكرتها في قلب بودابست حين تتحوّل الحضارة إلى وعيٍ يعيش في الإنسان