المتحف الكبير في البلد الكبير

2-11-2025 | 15:33

حين تُوضع ريشة ماعت، ريشة العدالة والحقيقة فوق كفة ميزان، وقلب المصري القديم فوق الكفة الأخرى، يكون هذا القلب مُتخففًا من كل حقد وضغينة وكُره وأذى، مُحلقًا كما جاء إلى الحساب أمام العرش بالسلام، فيقول المصري كلماته الأثيرة الراسخة الخالدة: "لم أسرق، لم أقتل، لم أكذب، لم أشهد زورًا، لم أدنس نفسي، لم أملأ قلبي بالحقد، لم ألوث مياه النيل، لم أكن سببًا في دموع إنسان، لم أكن سببًا في شقاء حيوان، لم أهمل النبات حتى يموت عطشًا، لم أتعالَ على الآخرين، أطعمت الجائع، رويت العطشان، وكسوت العراة".

وربما هذه الكلمات المحدودة بحساب العدد الذي نعرف، لا حدود لها في حساب رحابة "المصرية"، والمصرية هنا الوصف الجيني والإنساني المُعجز في أحواله وتفاصيله وحدوده في الزمان والمكان والأشخاص والروح والملامح والصفات والهِبات والحدس والتفكير والفطنة والسبق والتعدد والاحتواء والاحتمال والنُبل والرُقي والحب والوطن، وجميع المعاني التي من شأنها وُجدت الحياة لتكون في الأرض حياة.

لذلك كله تأكد أن "الكبير" ليس وصفًا لضخامة مُتحف، بل حالٌ لعظمة مشهد استطاع بالسلوك المصري الجمعي، الشعبي والرسمي، أن يُجسد كل هذه المعاني وكل هذا الحضور وكل هذا الألق، بافتتاح المتحف المصري الكبير، في مشهد لا أفق له ولا كادر يحيط بصورة الجموع من أبناء مصر، الذين أيقنوا بفطرة سليمة ما لهذا الحدث الأكبر من جلال، فكانت التجليات، هذه التجليات التي جعلتهم يُقيمون العرس قبل بدئه، ويدفعون العالم كله للاحتفال والابتهاج معهم، وقد رأى جميعنا هذه التظاهرة الكبيرة، التي تجسدت واقعًا زاهيًا على مواقع التواصل، ومُعالجة الصور الشخصية، ملايين المرات لتكون هيئاتهم مأخوذة من ملامح الأجداد في الحضارة العريقة، مع إضفاء ومزج حالات مُعاصرة سواء في الحوار أو الغناء أو الفخر، ولم يكن إقدامهم على ذلك مجرد تجريب وتزين إلكتروني، بقدر ما كان شعورًا راسخًا بهذه العلاقة الوطيدة التي لم تنفصم أبدًا عن روح الأجداد مهما ابتعدت السنون، وهي بعيدة وقريبة جدًا في آن، علاقة بين الإنسان وتاريخه وحضارته وقيمه وعِزه وفخره وانتصاراته وتميزه وسُموقه وارتقائه فوق الجميع.

هذه التظاهرة وأخبار افتتاح المتحف كان لها صداها الكبير حول العالم، حتى أن اللعبة الشعبية الأولى في العالم كرة القدم وأكبر وأهم دوري في العالم الدوري الإنجليزي اهتم بهذا الفيض الوطني الشعبي، واحتفى فريق توتنهام هوتسبير الإنجليزي بالافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير من خلال منشور احتفالي قبل مباراته ضد تشيلسي، ونشر الحساب الرسمي للنادي على صفحته صورةً يظهر فيها لاعبو الفريق وهم يقفون أمام تمثال رمسيس الثاني، مرفقة بتعليق: "من أرض الحضارة إلى ديربي لندن المُشتعل، في يوم افتتاح المتحف المصري الكبير هدفنا: ثلاث نقاط ضد تشيلسي"، أي أنهم استبشروا خيرًا بالنصر مع الاستعداد لافتتاح المتحف، ولقيت هذه الإشارة إشادة كبيرة من جمهور عريض.

وعلى سياقهم عبّر النجم الفرنسي عثمان ديمبيلي، المُتوج بلقب أفضل لاعب في العالم، عن افتخاره ودعمه لمصر بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، وفي لفتة رمزية لاقت تفاعلًا كبيرًا نشر صورته مُرتديًا الزي المصري القديم بتعليقٍ: "مصر... الحضارة التي ألهمت العالم".

وهذا نُزر يسير جدًا وقليل جدًا من كثير وغزير يرتبط بهذا الحدث الفارق في تاريخ مصر الحديث، وكما شدت كوكب الشرق من كلمات شاعر النيل حافظ إبراهيم قائلة: "وبناة الأهرام في سالف الدهر.. كفوني الكلام عند التحدي"، فإن افتتاح المتحف المصري الكبير وما يضم من مُقتنيات تصل إلى نحو مئة ألف قطعة أثرية تشمل مختلف مراحل التاريخ المصري القديم، مثل كنوز توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة كاملة بمكان واحد، وتمثال الملك رمسيس الثاني الذي له قصة طويلة منذ القِدَم وصولًا إلى الحدث الكبير بنقله من ميدان رمسيس واستقراره بالمتحف الكبير، والعديد من القطع النادرة تُغني المصريين عن الدخول في أي مُهاترات أو أحاديث جانبية لنفر من الناس لم يتحقق لهم ذرةٌ مما لدى مصر وشعب مصر الذي جعل من هُويته حياة يومية ومُمارسة مُعتادة وامتدادًا لا ينقطع، وكان الافتتاح الحدث الاستثنائي في تاريخ الإنسانية كلها وفي تاريخ الحضارة والثقافة، ليشهده بشكل مباشر تسعة وسبعون وفدًا رسميًا، منهم تسعة وثلاثون فيهم رؤساء ومُلوك وأمراء دُول وحكومات من أنحاء العالم كله، كما تابعه العالم عبر الشاشات والتغطية الإعلامية عبر وكالات إعلامية وصحفية، انبهارًا وتقديرًا، بل وشعورًا بالفخر؛ لأن هذا البلد الحضاري الكبير يوجد على الأرض التي ينتمون إليها.

وكان حقًا افتتاحًا مُشرفًا ومُبهرًا ومُذهلًا بقدر أهمية الحدث والحديث، وتضمن الحفل عبر فقراته، رسائل مصر إلى العالم والتي دائمًا ما يُعبر عنها القائد الوطني السيد الرئيس السيسي ابن هذا الوطن الذي تشرّب حبه والانتماء إليه ووعى دروس الأجداد، فجاءت كلماته بين قادة العالم ورُموزه نابعة من القلب المصري الصادق الداعي للسلام في الأرض، من وحي رسالة مصر التي يعرف قدرها وحجمها تمامًا للأمم، بأن مصر أكبر دولة عرفها التاريخ شهدت الفن والعقيدة وانطلقت منها أنوار الحكمة لتُنير الحضارة والإنسانية، ومصر كانت ولا تزال واحة للاستقرار وراعية للتراث الإنساني عبر الزمان، وأن المتحف تجسيد لمسيرة شعب سكن ضفاف النيل منذ فجر التاريخ ولا يزال يصنع الحضارة، وثمرة جهد آلاف المصريين عبر أعوام من العمل والإخلاص، وأن الإنسان المصري كان وظل ولم يزل صبورًا كريمًا طيبًا حاملًا المعرفة ورسولًا للسلام.

هذا الإنسان المصري الاستثنائي الذي أدهش العالم بحضارة استثنائية أسرارها ما زالت ممتدة في مُختلف مجالات الحياة، عصيةً على الإدراك والفهم، مهما بدا في العالم من تطور وتقدم ظاهري، لم يستطع أن يوقف الحروب البغيضة، فإن هذا الإنسان هو الذي يلفت كل الأنظار نحوه وهو يُرسخ السلام بالطريقة المصرية وبالإعجاز المصري، وليأتي افتتاح المتحف المصري الكبير، امتدادًا لسياق قديم ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وسياق قريب أذهلت فيه مصر العالم كله وهي تفرض رؤيتها النابعة من تكوينها، بأن الحوار أبقى من الصراع، وأن الأرض تستوعب الجميع، وأن الخير أعم وأشمل وأهم لبني الأرض وأن السلام هو الرسالة الأجدى لكل الشعوب.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: